أصبحت الترجمة اليوم جزءاً من حركة ثقافية عالمية تبحث عن أصوات جديدة تحمل رؤى مختلفة. ومع ذلك، يبقى السؤال قائماً: لماذا ينجح بعض الكُتّاب العرب في الوصول إلى القرّاء الدوليين بينما يظل آخرون في حدود اللغة الأولى؟ الإجابة تتجاوز جودة النصوص نفسها، إذ تتقاطع عند شبكة معقدة من العلاقات الأدبية، والجوائز، والقدرة على رواية قصة محلية تحمل صدىً عالمياً. ففي عالم النشر الدولي، لا يكفي أن تكتب جيّداً، وإنما يجب أن تكتب ما يمكن للعالم أن يتعرّف فيه على نفسه، حتى لو كان من بيئة بعيدة عنه تماماً.
الناشرون العالميون يبحثون عن شيء محدد: عمل قادر على أن ينافس في سوق مكتظ بالروايات والأفكار. لذلك، ينظرون إلى النص العربي من زاوية مختلفة: هل يحمل موضوعاً يلامس قضايا كونية؟ أم يمتلك صوتاً أدبياً متفرّداً؟ وهل يستطيع أن يضيف “زاوية جديدة” لفهم العالم؟ هذه الأسئلة لا تتعلّق بالأسلوب فقط، بل بالقدرة على إنتاج سرد يُترجم بنفس إنساني يتجاوز الجغرافيا السياسية والثقافية. ولهذا، كثيراً ما تبرز أعمال تتناول الهوية، والذاكرة، والهجرة، أو التحوّلات الاجتماعية، لأنها قضايا تسكن في كل المجتمعات، مهما اختلفت اللغات.
أما الجوائز الأدبية فتلعب دوراً يشبه الإضاءة الكاشفة، فهي تمنح بعض الأعمال حضوراً لم تكن لتحصل عليه بنفسها. إذا عندما ينال كاتب عربي جائزة مرموقة، تتحوّل الرواية فجأة إلى مشروع عالمي محتمل، ليس فقط لتميّزها، بل لأن الجوائز تمنح الناشرين “ضمانة” أولية على جودة النص وقابليته للتداول الدولي. وهكذا خرج كثير من الكُتّاب العرب إلى القارئ الأجنبي، من نجيب محفوظ في الماضي إلى أصوات عربية حديثة وجدت في الجوائز بوابة أولى لعبور الحدود. الأمر لا يتعلّق بالشهرة فقط، بل بزيادة ثقة السوق العالمي في الأدب العربي.
في المقابل، تظل العلاقات الأدبية والدبلوماسية الثقافية عاملاً خفياً لكنه بالغ التأثير. فالناشر الأجنبي لن يكتشف النصوص العربية بمجرد أن تُكتب، وإنما هناك من يعرّف بها، ويقدّمها، ويقرأها، ويؤكد قيمتها. وهنا يبرز دور الوكلاء الأدبيين، والمشاركات في معارض الكتب الدولية، وبرامج الترجمة الوطنية، وغيرها من المبادرات. وهذه الشبكات هي التي تجعل اسم الكاتب يتردد في دوائر النشر العالمية، قبل أن تقع المخطوطة فعلياً بين يدي مترجم أو ناشر. وفي غياب هذه الآلية، قد يظل العمل العظيم منسيّاً داخل لغته.
ومع كل تلك العوامل، يبقى العنصر الأهم هو النص ذاته، ذلك القادر على أن يخرج من بيئته الضيقة دون أن يفقد روحه. فالكاتب الذي ينجح في الترجمة هو غالباً من يستطيع المزج بين خصوصية تجربته وعالمية إحساسه، أي يمسك بتفاصيل الواقع المحلي، لكنه يكتب بروح إنسانية تجعل القارئ في نيويورك أو ميلانو أو سيول يشعر بأن هذه الحكاية تخصه بطريقة ما. وفي النهاية، هذا ما يجعل الأدب العربي يواصل رحلته نحو اللغات الأخرى: تلك القدرة على رواية قصة محلية، لكنها تلمس القلب الإنساني أينما كان.



