لم تعد كوريا الجنوبية مجرّد قوة اقتصادية وتكنولوجية، بل تحوّلت خلال العقدين الأخيرين إلى مختبر حي لصناعة النشر الرقمي. وبينما تتراجع معدلات القراءة الورقية في العديد من الدول، يشهد السوق الكوري تحوّلاً نوعياً في أنماط القراءة، يقوده جيل شاب نشأ على الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو جيل لا يكتفي بقراءة الكتب على الشاشات، بل يتفاعل معها، ويعلّق، ويشارك، ويحوّل الصفحات إلى مجتمعات رقمية نابضة بالحياة.
في قلب هذه الثورة، يقف “الويب تون” كظاهرة ثقافية وتجارية غير مسبوقة. وهي قصص مصوّرة تُنشر رقمياً على منصات مثل Naver Webtoon وKakao Page، وتُقرأ غالباً من أعلى إلى أسفل على الهاتف المحمول. بدأ “الويب تون” كامتداد للكوميكس التقليدي، لكنه سرعان ما انفصل عنه، مشكّلاً سوقاً مستقلاً بجمهور واسع، وناشرين متخصصين، وسلاسل قصصية تُباع حقوقها لتحويلها إلى أفلام ومسلسلات درامية، حيث بات هذا الشكل من النشر الرقمي جسراً جديداً بين الأدب والصورة والشاشة.
ولم تتخلّف دور النشر الكورية التقليدية عن هذا التحوّل، بل بادرت إلى تطوير نماذجها، فأنشأت أقساماً خاصة للنشر الإلكتروني، واستثمرت في تطبيقات قراءة تفاعلية، وتعاونت مع مطورين لتحسين تجربة المستخدم. كما انتقل بعض الكُتّاب الشباب إلى النشر الذاتي الرقمي عبر منصات مفتوحة، ما أتاح لأصوات جديدة أن تظهر خارج القنوات التقليدية. وفي الوقت نفسه، تلقى الكتاب الورقي دعماً من برامج حكومية تشجع على القراءة في المدارس والمكتبات العامة، في محاولة لإبقاء التوازن بين الرقمي والمطبوع.
ورغم هيمنة المحتوى الترفيهي على السوق الرقمي، إلا أن هناك توجهاً متزايداً نحو نشر مضامين تعليمية وفكرية بصيغة رقمية، خاصة في مجالات تطوير الذات، وريادة الأعمال، وتعلّم اللغات. كما أدت جائحة كورونا إلى تسريع هذا المسار، حيث زادت نسبة الاشتراكات في تطبيقات القراءة، وارتفعت مبيعات الكتب الرقمية بنسبة لافتة. ويُتوقع أن يستمر هذا النمو، مدفوعاً بالبنية التحتية التقنية القوية، والدعم الحكومي، والانفتاح الثقافي المتزايد.
في النهاية، لا يمكن فهم مشهد النشر في كوريا الجنوبية اليوم من دون الاعتراف بأنه تجاوز الورق، ولم يعد الكتاب مجرّد منتج يُستهلك، بل تجربة تُعاش على الشاشة، ويتقاطع فيها الأدب مع التكنولوجيا، والتسلية مع الصناعة، والقراءة مع المشاركة.



