أسئلة جميلة حسون
* حدثينا أكثر عن مبادرة “قافلة الكتب”.. لماذا هي مهمة.. وما هو التأثير الذي أحدثته منذ إطلاقها عام 1996؟
في العام ١٩٩٦ بدأتُ مشروع Rural books school، أما قافلة الكتاب كمشروع بشكله الحالي وبملكيّته الفكرية فقد بدأ في عام ٢٠٠٦. انطلقت فكرة قافلة الكتاب من مكتبة عائلية تملكها أسرتي التي كنتُ أديرها. كان الدافع وراء هذا المشروع هو كون معظم مرتادي المكتبة من المناطق النائية ( الجبال والصحراء) وكنت أعرف كم يجدون من صعوبات للحصول على الكتاب. بسبب بعد هذه المناطق عن المدينة، وخلوّها من المكتبات والفضاءات الثقافية.
إضافة إلى التحديّات السابقة، كنت ألاحظ ضيق اليد لدى هؤلاء الطلبة، ما كان يترك في أنفسهم شيئا من الحسرة على ما يفوتهم من المعرفة. ليس فقط ما يفوتهم بشكل شخصيّ، ولكن أيضًا ما سوف يفوت الأجيال القادمة من محيطهم الاجتماعي.
أهم تأثير قامت به القافلة، هو محاولة سدّ الفجوة السابق ذكرها. الفجوة بين المركز والهامش، المدينة والأطراف. أظن أن القافلة خطوة في اتجاه دمقرطة المعرفة وإتاحتها قدر المستطاع بشكل أوسع للفئات الأقلّ حظًا في الحصول عليها.
* المشروع يبدو مبادرة اجتماعية، ثقافية فنية متنوعة، أكثر من كونه “معرضاً متنقلاً للكتب”.. ما هو الدور الذي تلعبه الثقافة والفن في تطور المجتمع المدني؟
القافلة تفهم بشكل غير دقيق على إنها معرض متنقل للكتاب. القافلة فضاءٌ ثقافيٌ متنقّل. وهي محمّلة ليس فقط بالكتب والمواد الثقافيّة متعدّدة الوسائط، وإنما بمجموعات مختلفة من صنّاع الثقافة العرب وغير العرب، الذين عبر انضمامهم لرحل هذه القافلة يقيمون عددًا من الأمسيات، اللقاءات، العروض المسرحية، والورشات الثقافية في الأماكن الأكثر نأيًا وربما الأقلّ حظًا في الاتصال بالحركة الثقافيّة بسبب صعوبة التنقّل ونقص الإمكانات ووسائط الاتصال الحديثة المتمثلة في تكنولوجيا الاتصال وأدواتها.
* من أين استوحيت حماسك للمشروع… هل لمجرد أنك ناشرة وصاحبة مكتبة.. أم أن هناك اعتبارات أخرى وقفت وراء الفكرة؟
أنا، مع الأسف، لستُ ناشرة ولو أن هذا الأمر كان من أمنياتي. أنا كنت أدير مكتبة تملكها عائلتي لأكثر من ٢٠ عامًا. كما أسلفت، كانت خبرتي في المكتبة محرّكا رئيسيا. كان يزعجني بقاء الكتب على الرفوف، بالرغم من حاجة الطلبة إليها. العجز عن الحصول على الكتب حرّك دوافعي في هذا الاتجاه.
في البداية، قررت عمل ما أسميته :مائدة القراءة. وهي مساحة تتيح للقراء أن يجلسوا في المكتبة للقراءة من دون أن يضطروا إلى شراء الكتاب. هذه كانت محاولة شخصية لسدّ فجوة المعرفة والعمل، ولو بجهد شخصيّ، لإتاحة الكتب والمعرفة لروّادها الذين قد لا يملكون ثمن وسيطها ”الكتاب“.
المائدة أيضًا تحولت إلى مساحة لاستضافة الكتاب والمفكرين للتحاور مع القراء وتقديم كتبهم ونتاجاتهم. كما قمت بعمل لقاءات في فضاءات خاصة ومتعدّدة مثل المقاهي وأبهاء الفنادق ودور الضيافة لتقديم الكتب والكتّاب وتعزيز اتصالهم بالجمهور.
* تحولت مبادرة “قافلة الكتب” إلى مشروع يتضمن رحلات استكشافية للمناطق الجبلية أو الصحراوية البعيدة.. ألا ترين أن ذلك قد يُبعد المبادرة عن أهدافها الأساسية؟
إن قيام القافلة بحمل عدد من الفنانين، المثقفين والكتاب إلى المناطق الأكثر نأيًا، تأتي من إيماننا أن التبادل الثقافي يعمل بشكل حيوي ومتبادل. ليس أن الكاتب يرسل نتاجه الفكري أو الإبداعي لمستهلكي الثقافة في هذه المناطق، بل يدخل هو الآخر في عملية تواصل تجعل منه مستهلكا لثقافة سكان هذه المنطقة. فيقدم لهم شيئًا من المعرفة، ويحصل منهم على أشياء.
القافلة كما تقدم لسكان الجبال والمناطق الصحراوية خدمة معرفية، فإن سكّان هذه المناطق أيضًا يقومون بدورهم في تثقيف الزوّار وتعريفهم بثقافتهم وتراثهم المحلّي.
* ما أهمية مشاركة الكُتّاب والفنانين في مثل هذه المبادرات.. هل تلعب شهرتهم دوراً في زيادة الإقبال على الكتاب؟
في العام ١٩٩٩ قمت بعمل استطلاع رأي على عينة مكونة من ١٠٠٠ شاب وشابة. الاستطلاع كان حول ”ماذا يريد طلاب القرى أن يقرؤا؟“ كانت أجوبة الطلاب مثيرة للاهتمام، إذا أكد الطلاب على رغبتهم، ليس في قراءة الكتب وحسب، وإنما في لقاء الكتّاب الذين يكتبون هذه الكتب. لرؤيتهم، الاستماع إليهم، ومحاورتهم حول أفكارهم وإبداعاتهم. لذلك فإنني أعتقد أن سندًا علميًا وأخلاقيا يجعل من مشاركة الكتّاب والفنانين في القافلة ذات أهميّة بالغة.
من واقع خبرتي، يكون الكاتب الأنجح في التواصل مع الجمهور من هذه الفئة هو من يحقق تجربة أفضل. ليس الأمر دائمًا متعلقٌ بشهرة الكاتب.
* من يدعم المشروع خصوصاً أنه مستمر منذ سنوات طويلة ويتطلب التنقل لمسافات طويلة؟
المشروع بدأ تمويل شخصي، ومن أرباح المكتبة المتواضعة. ثم حصلت على بعض الدعم العيني من عدد من المؤسسات الثقافية العالمية التي من بينها معهد غوته الألماني. بعض المؤسسات تتبرّع بالكتب. وبعض الأصدقاء يساهمون ماديًا في دعم وتأمين مسائل التنقل والسكن والأمور اللوجستية.
* برأيك.. هل الكتاب وسيلة للمعرفة أم للترفيه.. وكيف تجدين إقبال المجتمع المغربي على القراءة؟
كلاهما. يمكن للقراءة أن تكون وسيلة للمعرفة أو وسيلة للترفيه أو كلاهما معًا. انطباعي أن معظم الناس لا يقرأون. الإقبال على القراءة ضعيف، لذلك أؤمن بقيمة هذه المبادرات في إحياء فعل القراءة خصوصا لدى الناشئة والأطفال.
* من يتحمل مسؤولية تراجع الإقبال على القراءة في العالم العربي؟.. وهل تعتبرين مشروعك جزءاً من الحل؟
أظن أن تراجع الإقبال على القراءة هو نتيجة لعدّة عوامل اقتصادية واجتماعية. يمكنني القول أنه، على العموم، يوجد غياب لسياسة شاملة لمشاريع ثقافية أو مشاريع تهتم بالكتاب وترويج فعل القراءة. بطبيعة الحال تتحمل الدول المسؤولية عن تحقيق الأهداف الكميّة المتعلّقة بالتعليم والقراءة. لكن المجتمع المدني أيضًا لا يُعفى من مسؤولية المساهمة في الترويج للكتاب وفعل القراءة. لذلك فإن مشروع القافلة، كحال مبادرات المجتمع المدني، مبادرة متواضعة تسعى للمضي قدمًا وإن بمقدار خطوة في اتجاه دمقرطة المعرفة وإتاحتها قدر المستطاع للجميع.
* تقود المرأة العديد من المبادرات الثقافية والاجتماعية الناجحة في المغرب.. ما أهمية مشاركة النساء المغربيات في العمل الثقافي والاجتماعي؟
شراكة المرأة المغربية في المجتمع ليست بأمر مستحدث ولا دخيل على المجتمع المغربي. حتى في أبسط القرى وأكثرها نأيًا تجد النساء تضطلع بدور في الفلاحة والصناعات التقليدية، إضافة إلى دور هام وأساسيّ في منزلها وتربية الأبناء. هذه الشراكة التي قد تبدو في المدن من مظاهر ”الحداثة“ هي أصيلة في المجتمع المغربيّ.
أما على صعيد العمل الثقافي فإن المغرب قدم للعالم العربي، وللعالم أمثلة لمفكرات ومثقفات طرقن بنتاجاتهن مواضيع وآفاق لم تكن مطروقة من قبل، أو قل، لم تكن تقارب بهذا الأسلوب. ولعل من بين أهم هذه الأمثلة هي المفكّرة والأكاديمية د.فاطمة المرنيسي، والتي كانت بالمناسبة من أكثر المتحمسين لمشروع قافلة الكتاب. وقد قالت لي قبل وفاتها: ”فخورة بكِ، لكونك تستهدفين القرى بقافلتك.“ أذكر هذه الكلمات وأعتزّ بها.
* كيف وجدت إقبال الأطفال على القراءة؟.. هل تنقصهم الكتب أم الحماس للمطالعة؟
حسب انطباعاتي وتجربتي، فإن الأطفال لديهم فضول فطري تجاه الكتب واستكشاف ما فيها. هذا الفضول بحاجة إلى تنمية تجعل منه عادة. القراءة فعل يتطوّر ليصبح عادة سلوكية ضمن عادات الطفل أو اليافع اليومية. لذلك، أرى أن الفضول الطبيعي لدى الأطفال لا يتم إمداده بالتدريب والتشجيع وتهيئة البيئة المناسبة لتطوير مهارة وسلوك وعادة القراءة.
* هل تعتقدين أن الكتب يمكن أن تُخرج المجتمعات التي تعيش في أماكن بعيدة أو نائية من عزلتها؟
منذ البداية تحدثت عن مفاهيم المركز والهامش، ودمقرطة الثقافة. كل هذه المفاهيم تشتبك مع ما طرحته في سؤالك. ألا وهو جسر الهوّة، تأمين المعرفة، وتوفير المنتج الثقافي إضافة إلى تحقيق تواصل حقيقي بين منتجي المعرفة ومستهلكيها في المناطق النائية. بالتالي أنا لست فقط أؤمن بما تطرحه حيال دور الكتاب في كسر العزلة، بل إن هذه الفكرة هي من صميم عملنا ومن بين أهدافه الرئيسية.
* ما هو المشروع المقبل لجميلة حسون؟.. ما هي طموحاتك؟
بحكم عملي لسنوات في قافلة الكتاب، أعتقد أن مشروع القافلة ممكن أن يتطوّر ليصبح نواة عدّة مشاريع أخرى. من بين هذه المشاريع التي أشتغل على تطويرها منذ سنوات، ملتقى ثقافي سنوي ينطلق من مراكش المدينة إلى الصحراء والقرى، مستلهما من تجربة القافلة وروحها ومطوّرًا لها.
يسعى الملتقى السنوي إلى تشكيل فضاء متجدد للتبادل الثقافي والمعرفي العربي وتنشيط بيئة محفزّة للإبداع عبر استضافة مجموعة من الكتاب والفنانين وصناع الثقافة في العالم العربي. كما وعقد الندوات والورشات في المدينة والقرية على السواء. متحديًا بذلك فكرة المركز والهامش التي تحدّ من إمكانية وصول الثقافة إلى متلقّيها من قاطني الأطراف، وداعما لفكرة دمقرطة الثقافة عبر تأمينها للجميع.
وقد يتطور هذا المشروع ليصبح مركزاً ثقافياً يطلق العديد من المشاريع والأنشطة، التي من بينها الملتقى السنوي. آمل أن يصبح هذا المركز نقطة إشعاع ثقافي من مراكش إلى أنحاء المغرب. كما آمل أن يكون نقطة وصل بين المغرب العربي والمشرق، والعالم أيضًا. لم لا.
جميلة حسّون
مرّاكش
فبراير ٢٠٢٢