لم يعد شغف جمع الكتب مقتصراً على القرّاء الذين يهتمون باقتناء الإصدارات القديمة أو الطبعات الأولى بدافع الحنين أو المتعة الفكرية، بل أصبح اليوم مجالاً واعداً للاستثمار، يجذب هواة جمع الكتب والمقتنيات من مختلف أنحاء العالم. فنسخة واحدة من كتاب شهير أو رواية عالمية، بطبعة أولى أو توقيع المؤلف، قد تتحوّل إلى أصلٍ مالي يضاهي في قيمته اللوحات الفنية أو المجوهرات النادرة.
ويعود سبب هذا التحوّل إلى مزيج من الندرة والتاريخ والجاذبية الثقافية. فالطبعات الأولى غالباً ما تُطبع بكميات محدودة قبل أن يذيع صيت الكتاب، ما يمنحها قيمة عالية مع مرور الوقت. أما النسخ الموقعة، فتضيف طابعاً شخصياً من الارتباط بين القارئ والمؤلف، خصوصاً إذا كان التوقيع قد تم في مناسبة خاصة أو ارتبط بحكاية فريدة. وتزداد قيمة التوقيع وأهميته عندما يفوز الكتاب أو مؤلفه بجائزة مرموقة.
وخلال السنوات الأخيرة شهدت دور المزادات العالمية أرقاماً لافتة في هذا المجال. فقد بيعت نسخة من الطبعة الأولى لرواية “غاتسبي العظيم” لفرنسيس سكوت فيتزجيرالد مقابل أكثر من 400 ألف دولار أمريكي في مزاد كريستيز، بينما حققت نسخة موقعة من “هاري بوتر وحجر الفيلسوف” لج. ك. رولينغ سعراً تجاوز 150 ألف دولار أمريكي في مزاد بونهامز. أما على مستوى الكتب النادرة تاريخياً، فقد بيعت نسخة من “أطلس ميركاتور” تعود إلى القرن السادس عشر بأكثر من 1.2 مليون دولار أمريكي في مزاد سوذبيز.
واللافت أن الاستثمار في الكتب النادرة لا يقتصر على الأدب الكلاسيكي أو المخطوطات التاريخية، بل يشمل أيضاً إصدارات حديثة تحوّلت بسرعة إلى مقتنيات ثمينة. فبعض المجموعات المحدودة، مثل الطبعات الفاخرة المرقمة أو الإصدارات الخاصة التي تحمل توقيع المؤلف، يمكن أن ترتفع قيمتها أضعافاً خلال سنوات قليلة، خاصة إذا ارتبطت بأعمال تحظى بانتشار عالمي أو تحوّلت إلى أيقونات ثقافية.
لكن دخول هذا المجال يحتاج إلى معرفة دقيقة بالسوق، وفهماً لعوامل التقييم مثل حالة الكتاب، وأصالته، وسياق نشره، وسمعة المؤلف. ولهذا يلجأ كثير من المستثمرين الجدد إلى بيوت المزادات أو خبراء الكتب النادرة لضمان صحة المقتنيات وتقدير قيمتها بدقة. ويبقى جمع الطبعات القديمة والأولى والموقعة أكثر من مجرد استثمار مالي، فهو استثمار في الثقافة والذاكرة الإنسانية.
ولعل أجمل ما في هذا العالم أنه يجمع بين شغف المعرفة وحسّ الاكتشاف وروح الاستثمار. فمن يقتني اليوم طبعة أولى أو نسخة موقعة قد يجد نفسه غداً مالكاً لقطعة نادرة تتجاوز قيمتها المادية إلى قيمة معنوية لا تقدَّر بثمن. إنها دعوة لعُشّاق الكتب والباحثين عن الفرص لاستكشاف هذا الحقل الثقافي الفريد، حيث يصبح الغلاف والورق والحبر مفاتيح لعالم من الذكريات، وأصولاً تتحدث لغة الزمن، وتزداد بريقاً كلما مرّت عليها الأعوام.



