في السنوات الأخيرة، تحوّلت المكسيك إلى واحدة من أكثر البيئات تعقيداً للكتابة والنشر، إذ يعيش الُكتّاب والناشرون في سياق يختلط فيه الأدب بالنجاة. ففي بلد يعاني من تصاعد العنف والجريمة المنظّمة، باتت صناعة النشر ليست فقط مساحة للإبداع، بل أيضاً وسيلة للمقاومة والصمود الثقافي، حيث تنتشر الكتب التي تناقش موضوعات العنف والفساد والهوية، ويزداد الإقبال على الرواية الواقعية وشهادات الناجين، في محاولة لفهم ما يحدث، ومواجهته بالحرف قبل السلاح.
ورغم صعوبة المناخ العام، شهدت المكسيك نمواً لافتاً لدور النشر المستقلة التي باتت تطرح نفسها كبديل أخلاقي وإبداعي لدور النشر الكبرى. وتركز هذه الدور على الأصوات المهمّشة، وتتبنى موضوعات مثل العدالة الاجتماعية، وحقوق المرأة، وذاكرة الضحايا. ومن بين النماذج الرائدة نجد دار “سورا” و”ألفاغوارا” و”سكستو بسو”، التي تحوّلت إلى منصات للكتابة الجريئة واللافتة. في الوقت نفسه، تسعى هذه الدور إلى البقاء في السوق من خلال الابتكار في طرق التوزيع والوصول إلى القارئ، لا سيما عبر المعارض والفعاليات الثقافية.
ويحظى الكُتّاب المكسيكيون الشباب بحضور متزايد في المشهد الأدبي العالمي، خاصة ممن يكتبون بالإسبانية ويعيشون خارج المكسيك، مثل فاليريا لويسيلي وخافيير سيركاس. لكن هذا الحضور الدولي لا يُخفي التحديات المحلية، حيث لا تزال معدلات القراءة منخفضة مقارنة بدول أمريكا اللاتينية الأخرى، ويرتبط الوصول إلى الكتاب بعوائق اقتصادية وجغرافية. في المقابل، تنشط مبادرات مدنية مثل “ليكتب الجميع” و”مكتبات الشعب” التي تهدف إلى نشر ثقافة القراءة في المجتمعات المحرومة.
واللافت أن التحوّل نحو الرقمنة في النشر المكسيكي لا يسير بسرعة، إذ لا تزال النسبة الأكبر من الكتب تُقرأ ورقياً، رغم توفر نسخ إلكترونية لبعض الإصدارات. إلا أن تطبيقات مثل “بوكميت” Bookmate بدأت تجد طريقها إلى القرّاء الشباب، إلى جانب مبادرات حكومية تسعى إلى رقمنة محتوى المكتبات العامة. ومع ذلك، تبقى الثقة الأكبر في التفاعل البشري والمباشر بين الكاتب والجمهور، من خلال اللقاءات والصالونات الأدبية والمهرجانات.
ورغم كل هذه الظروف والتحديات، لا تعتبر الكتب في المكسيك ترفاً ثقافياً، بل أداة لفهم الذات والمجتمع، ومحاولة لإعادة كتابة الواقع بلغة أكثر إنسانية. فوسط الضجيج والخوف، يظل الكتاب نافذة على الأمل، ووسيلة لحماية الذاكرة من النسيان، ولحماية الحقيقة من الاختفاء.



