بقلم شوقي بن حسن
إذا أردت أن تتعرّف إلى تواريخ بلدان شمال أفريقيا فسيدلّك مكتبيّون ومؤرّخون إلى أقصر الطرق: “ابحث عن كتب دار الغرب الإسلامي”. هناك ستجد تاريخ الدولة الأغلبية والسلطنة الحفصية وسير الموحّدين وملوك الطوائف في الأندلس، وكتباً محقّقة لكبار علماء المالكية في جامع الزيتونة أو القرويين، وفي العصور الحديثة تجد كتابات زعماء النضال ضد المستعمر الفرنسي من التونسي عبد العزيز الثعالبي إلى المغربي علال الفاسي.
كان خلف كل هذه الأعمال من لُقّب بـ “شيخ الناشرين” في تونس؛ الحبيب اللمسي (1930 – 2017)، الذي رحل عن عالمنا (18 – 5 – 2017)، وعاش معظم حياته في خدمة هذه الدار ومشروعها متنقلاً بين بيروت وتونس.
تبدو “دار الغرب الإسلامي” ترجمة لمشروع سياسي طالما أطلقه السياسيون منذ سنوات النضال من أجل الاستقلال في تونس والجزائر والمغرب، دون أن يجسّدوه في بلورة نهائية. كان اللمسي يرى أنهم يقفزون إلى طموح لا يجري وضع قاعدته الصلبة، لذلك عمل على أن ترى شعوب المنطقة نفسها في مرايا تاريخها المشترك.
إذا كانت الكتب التاريخية هي التي حقّقت شهرة الدار وسمعتها، فإن ذلك لم يأتِ من فراغ، فإضافة إلى استكتاب المؤرّخين لمسح تاريخ الإسلام في المغرب العربي مثل محمد الطالبي في “الدولة الأغلبية” والحبيب الجنحاني في “دراسات في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمغرب الإسلامي”، جرت أيضاً ترجمة أبرز الأعمال التي تعنى بتاريخ المنطقة مثل “تاريخ إفريقية في العهد الحفصي” للمستشرق الفرنسي روبير برونشفيك، وجرت أيضاً ترجمة الأطروحات العربية في الجامعات الفرنسية مثل كتاب “الدولة الصنهاجية” لـ الهادي روجيه إدريس و”الخلافة الفاطمية بالمغرب” لـ فرحات الدشراوي”، وفي هذه الأعمال جميعها جرى تكليف المؤرّخ التونسي الراحل حمادي الساحلي بنقلها إلى العربية حتى أنها تبدو متناسقة بشكل يظهرها كموسوعة متكاملة حول التاريخ الإسلامي لشمال أفريقيا.
إضافة إلى هذا المنزع التاريخي، كانت الدار تهدف إلى أن تكون مجالاً تعريفياً يربط بين جناحي الحضارة الإسلامية، ومن هنا نفهم خيار اللمسي الاستراتيجي ببعث مؤسسته في بيروت، وإن كان للأمر تفسيرات أخرى بداية بضيق سوق الكتاب التونسي وضيق صدر السلطات التونسي بهكذا مشروع وهكذا ناشر طموح، وصولاً إلى سبب شخصي يتعلّق بكون اللمسي كان في تلك السنوات منتمياً إلى فصائل المقاومة الفلسطينية ضمن موجة من الشباب التونسي الذي تطوّع لمحاربة المشروع الصهيوني في الأراضي المحتلة انطلاقاً من لبنان.
كانت كتب “دار الغرب الإسلامي” لسنوات طويلة لا تصل تونس إلا عبر حقائب السفر، أو في مكتبات مهدّدة بالتفتيشات البوليسية كون أطروحاتها تسبّب إحراجات للنظام التونسي ذي الرهانات التغريبية التي عرفت عنه زمن حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، بالإضافة إلى أن الدار فتحت المجال أمام كتابة تاريخ تونس الحديث مثل طبعها عمل “الحزب الحر الدستوري” ليوسف مناصرية، أو إعادتها نشر أعمال عبد العزيز الثعالبي الذي عمل بورقيبة على حجب زعامته في سنوات الاستقلال.
خمسمائة كتاب هو العدد التقريبي لما نشره الحبيب اللمسي في “دار الغرب الإسلامي”، كان التاريخ الشاغل الأبرز ولكنه لم يكن حصرياً، فإلى جانبه نجد كتباً في اللغة وفي الشعر وفي العلوم الدينية، كما خصّص جزءاً من منشوراته لتحقيق كتب تراثية، معظمها أندلسية. حصيلة تكشف عن مثابرة ورؤية، وخصوصاً على قيم يمكن أن تكون على هيئة دار نشر.