الجزائر ـ عبد الرزاق بوكبة
إن تناول مثل هذا الموضوع من هذه الزاوية، لا يهدف إلى التقليل من مقاربات المختصين والمهنيين في مجالات النشر والقراءة، فهم العمود الفقري في العملية كلها، غير أنها محاولة للفت الانتباه إلى جملة من الأسئلة علينا تصفية الحساب معها نهائيًا، حتى تكون لمبادراتنا في الكتابة والقراءة والنشر جدوى، منها: أيَّ قارئ نريد؟ وإذا حدث أن توفّر هذا القارئ كما نريده، ماذا نفعل به، في ظلّ غياب مشروع حضاري عربي يثمّن فعل البناء، ما عدا في بقع عربية تقلّ عن أصابع اليد الواحدة، وتتعرّض للحسد والتشويه، عوض الدعم والتثمين المعنويين؟
سأحتفي هنا بنماذجَ جديرةٍ بالاحتفاء، التقيتها صدفة، في مدن عربية مختلفة، لكنها بقيت راسخة في ذاكرتي، ولا أدري إن كانت تشكّل استثناء، أم أنها نسبة معتبرة لا يُنتبه إليها، ذلك أننا تعوّدنا على أن نجترّ حكمًا جاهزًا يتعلّق بـ”أزمة القراءة” في الوطن العربي، تردّده ألسنة المثقفين والإعلاميين، من غير الاستناد إلى دراسة وسبر آراء علميين، وكنت أقول في نفسي، كلما التقيت نموذجًا منها، ما أجدره بأن يعتلي منصات الحديث عن القراءة، بدل بعض المتشدّقين الناطقين باسم الميدان وهم لا يعرفونه.
أمّ ذهبية
تعودنا في معارض الكتاب العربية، على أن نجد من يبيع قرب مداخلها، وعلى الأرصفة القريبة منها، ما يُؤكل ويُشرب، بغض النظر عن الأسعار والصلاحية، لكننا لم نتعوّد على أن نجد امرأة تبيع خاتمًا من ذهب. كان هذا حال إحدى السيدات بالقرب من معرض الدار البيضاء في المملكة المغربية.
اتجه فضولي في البداية إلى زاوية الخاتم، فقد كان أنيقًا ومتميّزًا، ثم إلى زاوية البائعة نفسها. سألتها: “لماذا تبيعين خاتمك؟”، قالت: “ربّيت أولادي الثلاثة، منذ صغرهم، على أن يلتهموا يوميًا صفحاتٍ من كتاب ما، قبل أن يناموا، حتى صاروا مستعدين لأن يتخلوا عن وجبة العشاء، لكنهم لا يفرطون في عادة القراءة، وليس أمامي هذا العام، حتى أجعلهم يشترون زادهم السنوي من معرض الكتاب، إلا أن أبيع خاتمي هذا!”.
وجدت نفسي أمام تجربة حية، قلما نستمع إليها، فأخرجت قلمي ودفتري وشرعت في التسجيل: “لم أكن أضربهم، حين يفعلون ما يستوجب العقوبة، بل أفرض عليهم أن يحفظوا قصّة، كنت قد اشتريتها مسبقًا، وراعيت كونها مشوقة ومفيدة، حتى أنهم صاروا يقترفون الأخطاء أحيانًا، ليحظوا بهذه العقوبة، وكنت، كلما طرحوا عليّ سؤالًا يرغبون من خلاله في معرفة معلومة ما، أعطيهم مالًا وأرسلهم إلى المكتبة ليشتروا كتابًا يغنيهم في ذاك الباب، فإذا لاحظت أنهم توقفوا عن القراءة فيه، لأنهم حصلوا على الإجابة المقصودة، أغريتهم بإكماله، مقابل أن أعطيهم مبلغًا يساوي ثمنه.
تواصل هذه الأم الذهبية: “ثم صارت هداياي لهم كتبًا، في المناسبات المختلفة، بما فيها عيد ميلادي، فأنا أطلب منهم أن يهدوني كتبًا، أقرأها ثم أكثر من مدحها في حضرتهم ليقبلوا عليها، ولم يحدث يومًا أن خضت معهم سفرًا، من غير أن أحمل في حقيبتي كتبًا، وما أن تنطلق الحافلة أو القطار حتى ألوّح بها في وجوههم، تمامًا في اللحظة، التي أرى أنهم شرعوا يتذمرون فيها من طول الطريق”.
وتعترف محدثتنا بأنها جرّبت طريقة وقفت على نجاعتها في تحبيب القراءة إلى أطفالها: “أتعمّد أن أجلب معي فيلمًا روائيًا في قرص مضغوط، رفقة الرواية التي اقتبس منها، فأظهر القرص وأخفي الرواية إلى ما بعد المشاهدة. حينها تصبح قراءة الرواية مطلبًا من أكبر مطالبهم، أحيانًا أعطيها لهم مباشرة، وأحيانًا أخرى أشترط أن يكملوا كتابًا كانوا قد تركوه، فيحدث أن يلتهموا كليهما بشغف”.
طلبت منها أن تحتفظ بخاتمها لنفسها، وتتبعني إلى داخل المعرض، لتحصل على “زاد العام”، متمثلاً في مجموعة من الكتب الموقعة من الكتّاب أنفسهم. من ينكر كرم الكاتب العربي في هذا الباب؟
لاجئة تريد كتباً!
قبل شهرين، طرقت بابَ بيتي إحدى اللاجئات السوريات، اللواتي يتدبرن اللقمة من خلال الطواف على البيوت، وما إن لمحت خزانة الكتب في الصالون، حتى صاحت بأعلى صوتها، كأنها رأت أباها أو أخاها: “الله يخليك، بلاش تعطيني مصاري، بدّي كتب”. كان مشهدًا تساوى فيه الحزن والفرح عندي، الحزن على إنسان سوري شُرّد في العالم، ظلمًا وعدوانًا، والفرح بوجود إنسانة مستعدّة لأن تتخلّى عن كلّ شيء من أجل الكتاب.
قالت أم طيف، كان هذا اسمها، إن ابنتها لا تذكر من جملة ما خلّفته في سوريا سوى مكتبتها. “بكت على كتبها، وهي تغادر، أكثر مما بكت على أخيها وهو يُدفن، وما أن وصلنا إلى الجزائر العاصمة، حتى راحت تسأل عن مكتباتها، فعرفتها كلها، وإلى تلك المكتبات يعود معظم ما نجنيه من المحسنين”. تختصر أمّ طيف سبب تعلّق ابنتها بالقراءة، في “كان والدها يعمل بعيدًا عن البيت، وكان يجلب لها كتبًا كلما أتى لزيارتنا، ويخبرها بأنه سيعود سريعًا كلما قرأتها بسرعة”.
سجين الكتب!
كان القطار يلتهم سكّته، ما بين مدينتي عنّابة والجزائر العاصمة ليلًا، وكنت أتحايل على الوقت بالغرق في رواية “الخيميائي” لباولو كويلو، كنت كلما رفعت عينيَّ عنها، رأيت فتىً ينظر إليّ، فأغرق في الرواية من جديد، تحاشيًا للجمر المتطاير من عينيه.
أنهيت الرواية وهممت بوضعها في حقيبة الظهر، فأمسكت يدُ الفتى يدي. قال: “لا شكّ في أنك اعتبرتني لصًّا، فنظراتي إليك وهيأتي توحيان بذلك، لكنني ما كنت أنظر إليك، إلا لأعرف أنك أنهيت الكتاب، فآخذه منك، ولا بد أن آخذه، إما هدية وإما بيعًا، وإما غصبًا، فاختر أيَّها تريد؟!”.
قلت: ليس لمحب كتب مثلي إلا أن يفرح بمحب لباولو كويلو مثلك، قال: “لم أطلب الكتاب بهذه الطريقة لأنه لباولو، بل لأنه كتاب أصلًا، فأنا أقرأ كلّ ما يقع تحت يدي منذ عشر سنوات، والحكاية بدأت في السجن، حيث كان أخي الأكبر يدسّ لي في قفة سلة الزيارة الأسبوعية كتابًا. استهجنت الأمر في البداية، ثم صار أحدَ مطالبي، في ظل فراغات السجن، أتدري أنني قرأت 423 كتابًا على مدار سبعة أعوام؟ لماذا لا تعمل الحكومة والأسرة في الوطن العربي على إدخال الكتاب إلى السجون؟”
قلت له: كلما سألت أبًا عربيًا: لماذا لا تشتري كتبًا لأطفالك، تحجّج بارتفاع أسعارها، ولا أجد عنده إجابة حين أسأله: هي غالية بالمقارنة مع ماذا؟ مع علبة السجائر مثلًا؟!