يمثل الشعر بكينونته الإنسانية والحضارية رهاناً مغامراً لأغلب دور النشر في العالم العربي، الأمر الذي يتطلب ترويجاً وتوزيعاً وأفقاً مجتمعياً واعياً بضرورة الشعر في الحياة البشرية، لذلك تقع على عاتق دور النشر الكثير من المسؤوليات المجتمعية والمعرفية والإبداعية من حيث التبني والإنتاج للدواوين الشعرية ونشرها وتوزيعها بشكل مثمر.
دفع هذا الحال بالشعراء إلى التفاوض والمثابرة من أجل الحصول على عرض جيّد من دار نشر ما تتكفل بطباعة قصائدهم، وهذا ما بات نادراً في المشهد الشعري العربي، فليس غريباً أن يجد المعاين للكثير من المجموعات الشعرية الصادرة حديثاً أن تكاليف طباعتها تحملها الشاعر نفسه، ليكون بذلك وحده في مواجهة أزمة البيع ، وأزمة التوزيع ، وأزمة الترويج والتلقي.
انحسار الشعر يرتبط بغياب الطبقة الوسطى
الناقدة العراقية د. حذام بدر أكدت أن أزمة قراءة الشعر وانتشاره أزمة عالمية وليست عربية فقط، فحين وجه سؤال إلى الشاعر الإسباني خوان رامون خيمينيث “أي الرجال والنساء يقرأون القصائد؟”، أجاب بالإهداء الذي وضعه في أحد كتبه “…الأقلية الهائلة”!.
وأضافت الدكتور حذام: “ربما يعود انحسار الشعر لانحسار الطبقة المتوسطة في المجتمعات التي كانت تميل إلى قراءة الشعر والاستمتاع به، فالتغيير الاقتصادي ترافقه تغييرات أخرى تطرأ على الأخلاق والسلوك العام والسياسة، ليتحول الأفراد إلى مستهلكين آنيين، لذلك تجتاحهم مواقع التواصل الاجتماعي ولا يفكرّون في الماضي ولا المستقبل، فضلاً عن أن الرواية بدأت تأخذ الحيّز الأكبر لدى القراء، فجلهم يفضّل شراء رواية على مجموعة شعرية، بالإضافة إلى أن بعض الشعراء تحوّل إلى كتابة الرواية، إذ وجد بعضهم أنها تحتوي على أصناف متعددة من الفنون، وأن الشعر حاضر بقوة فيها، وبالتأكيد فإن قيمة الكتاب تنعكس بعدد القراء الذين يشترونه، وإذا كان هناك انحسار في عدد قراء الشعر فهذا ينعكس على طباعة كتب الشعر في دور النشر التي هي بالنتيجة ترتبط بسياقات اقتصادية أيضاً”.
أزمة تحتاج إلى تضافر الجهود المؤسسية والأهلية
الشاعر عمر السراي، الأمين الإداري والمالي في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، أشار أن الكتاب الشعري ليس هو ما يعاني من أزمة على مستوى التوزيع والتلقي، فالكتاب بصورة عامة لا يجد داراً خاصة تستطيع توفير تداوله للعامة والخاصة، وقبل مناقشة التوزيع ينبغي مناقشة التلقي، أي مناقشة حساسية العصر الراهن، أو رغبة الجمهور في الشكل والقياس والنوع الذي يناسبه.
ولفت السراي إلى أن ذلك ما ينبغي أن تقوم به المؤسسات الثقافية، لدراسة جدوى طباعة الكتاب أولاً، ومنها الكتاب الشعري، وبعد ذلك التفكير بآليات ناجحة لإيصال الكتاب، من خلال دار توزيع متخصصة تضع الإعلان والترويج نصب أعينها. مضيفاً أنه فيما يتعلق بجهود المؤسسات الثقافية، ومنها اتحادات الكتاب والأدباء العرب: “أظن أن المشكلة أصعب من أن تتصدى لها مؤسسة واحدة، فنحن بحاجة إلى جهد متضافر ومشروع حكومي وأهلي، إذ تظل أغلب المشروعات الفردية نخبوية إلى حد ما”.
وأكد عمر السراي إلى “أن اتحاد كتّاب وأدباء العراق يستعد لإطلاق مشروع فتيّ ومغامر، يتمثل بطباعة سلسلة من الكتب للأدباء بنصف سعر التكلفة، في دار عربية تحقق الرواج عبر المشاركة في المعارض العربية للكتاب، مع التوزيع الداخلي من خلال الاتحادات الفرعية، فضلاً عن إيصال نسخ من الكتب إلى اتحادات الأدباء العرب، ويظل الحلم أكبر من ذلك لتوفير الكتاب مع سلة الخبز، لتحقيق جيل مثقف وقارئ”.
الناشر يراه بضاعة كاسدة.. والشعراء يتحملون تكاليف إبداعهم
الناشر العراقي فارس الكامل، صاحب دار “المعقدين” للنشر والتوزيع في البصرة، أوضح “أن أي دار نشر هي في البداية والنهاية مشروع تجاري قبل أن تكون قضية وموقف، وبما أن قراء الشعر قليلون فإن المردود المادي من مبيعات الدواوين الشعرية ضعيف، ولا يغطي تكاليف الطباعة، عكس الرواية تماماً التي تتسابق عليها دور النشر نظرًا لارتفاع مبيعاتها”.
وبيّن فارس “أنه مع عظمة الشعر وأهميته وقوة تأثيره، يشكل على المستوى الاقتصادي لدور النشر بضاعة كاسدة مقارنة بكتب التاريخ، والروايات، وباقي الأجناس الأدبية، الأمر الذي يضطر الشاعر في الكثير من الأحيان إلى تحمّل تكاليف دواوينه ومن ثم توزيعها مجاناً في إطار المجاملات الأدبية لا أكثر، فلو سألنا روائياً مثل سنان أنطون، والذي بدأ شاعراً، هل مستوى مبيعات ديوانه الأول يضاهي مبيعات روايته الأولى “وحدها شجرة الرمان”؟ ستكون الإجابة واضحة ولا تحتاج لعقد مقارنة بين الشعر وغيره من الأجناس الإبداعية”.
أشباه الشعراء أضروا بسوق النشر وأفسدوا مستوى القصيدة
الناشر العراقي مازن لطيف، صاحب دار ميزوبوتاميا للنشر والتوزيع في بغداد، رأى أن ظاهرة انتشار طبع دواوين الشعر في العراق بعد عام 2003 ملفتة للاهتمام بسبب كثرة المطبوع، لا سيما أن الشعر يأتي بأهمية أقل في أغلب دور النشر العربية والعالمية من ناحية المطبوع والربح، أما في العراق فالوضع يبدو مختلفاً، حيث بات من السهل أن تصبح شاعراً، فمجرد أن يُوفر المال للناشر يصبح الهاوي شاعراً بين ليلة وضحاها، فمعظم الناشرين العراقيين يطبعون أي ديوان شعري حتى لو لم يكن شعراً جيّداً.
وطالب الناشر مازن لطيف بضرورة توفير لجنة للإشراف على المطبوعات الشعرية تضم في عضويتها عدداً من الشعراء الذين لهم بصمة واضحة في المشهد الشعري العراقي، بعد أن أصبحت سوق النشر العراقية مكتظة بكتب “الشعر” فكل من يكتب خاطرة ما، أو حكاية ما في مواقع التواصل الاجتماعي يصبح شاعراً، علماً أن نسبة كبيرة من الشعراء المبدعين يطبعون على نفقتهم الخاصة وهذا أمر مؤسف.
تظل أزمة الشعر تراوح في مكانها وتحلم بحلول جادة وموضوعية لمعالجة كل هذه الإشكاليات التسويقية والتفاعلية التي تقلل من العلاقة الجمالية بين الشعر والمتلقي، خصوصاً على صعيد تبني دور النشر لمشاريع ورؤى تعمل جاهدة لترميم واقع الأزمة الكبيرة للشعر العربي، وترويجه وفتح الآفاق له ولمتابعيه من الجمهور العربي والعالمي.