كانت القاهرة في عشرينيات القرن الماضي نابضة بالحياة في مشهد متعدد الثقافات، وبيئة فنية ثرية بتنوعها من الرقص والغناء والتمثيل، وفناني الملاهي الليلية، وموسيقيي الجاز، والكُتّاب. كانت هذه الأجواء الجامحة هي التي جعلت المدينة واحدة من أكثر المدن إثارة سواء للزائرين أو الراغبين في الإقامة – وكانت بعض الشخصيات الأكثر جاذبية من النساء، وكثير من قصصهن قد نسي أو لم يسمع بها الجمهور الغربي.
يحاول الكاتب والمستعرب البريطاني رافائيل كورماك إماطة اللثام عن هذا العالم المتلألئ وإعادته إلى الحياة بطريقة غنية ورائعة، من خلال كتابه الجديد “منتصف الليل في القاهرة” Midnight in Cairo، الذي لاقى إشادة واسعة من قبل كُتّاب عرب بارزين من أمثال أهداف سويف وعلاء الأسواني، الذي وصفه بأنه “كتاب مهم وثاقب ورائع يركز على الراقصات والممثلات والمغنيات الرائدات في مصر ثم تتكشف صفحاته عن ولادة الحركة النسائية في البلاد. يسلّط كورماك الضوء على فترة مهمة في تاريخ مصر الحديث – غير معروفة تقريبًا في الغرب – عندما كانت ثقافة القاهرة تتميز بتسامحها مع مختلف الأعراق والأديان. ويبرز مدى التشويه الذي أصاب الثقافة المصرية بفعل الاستبداد والتطرف الديني في العقود التي تلت ذلك.
وكورماك هو محرر “كتاب القاهرة” The Book of Cairo، الذي يضم قصصًا قصيرة مصرية عن القاهرة؛ وشارك من قبل في تحرير “كتاب الخرطوم” The Book of Khartoum، وله كتابات بارزة عن الأدب والثقافة والتاريخ العربي في مجموعة متنوعة من الدوريات والمجلات مثل مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس” London Review of Books و”ملحق التايمز الأدبي” The Times Literary Supplement.
تحدث كورماك إلى “ناشر” من أثينا التي يعكف بها حاليًا على ترجمة بعض الأعمال من العربية إلى الإنجليزية، وتأليف كتاب عن التاريخ الروحاني العالمي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ما الذي بعث في نفسك الرغبة في تأليف الكتاب – هل كانت هناك لحظة معينة؟
كان هناك باعثان رئيسيان جعلاني أفكر في تأليف هذا الكتاب. السبب الأول هو أنني عشت في القاهرة لفترة وتجولت كثيرًا في منطقة وسط البلد التاريخية، وهي لا شك منطقة مثيرة للذكريات ومليئة بالقصص التي أردت اكتشافها.
أما السبب الثاني فقد يبدو أكاديميًا على الأغلب، ذلك أنني كنت أدرس لنيل درجة الدكتوراه في المسرح المصري، وكان موضوعها “مقتطفات عربية من مسرحية سوفوكليس أوديب ريكس في القرن العشرين”. وخلال رحلة البحث، عثرت على ثروة من المذكرات والمقالات الصحفية التي تحكي قصة مشهد الحياة الليلية النابضة بالحياة في القاهرة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. من الواضح أنه كان هناك عالم كامل جدير بالاستكشاف، ولكن لم تكن هناك أي مراجع أو كتب عنه باللغة الإنجليزية، وهنا خطرت لي فكرة تأليف كتاب عن هذه المرحلة.
تشتهر إحدى شخصيات كتابك بـ”رقص الشمعدان”، وهو يبدو خطيراً! هل لك أن تخبرنا المزيد عن ذلك.
لا يزال رقص الشمعدان مشهورًا في القاهرة اليوم وجزءًا من العديد من العروض الراقصة، وعادة ما يكون هناك راقصٌ يوازن شمعدانًا كبيرًا على رأسه وهو يرقص للجمهور، وهذه الرقصة الأسطورية ابتكرتها شفيقة القبطية، التي امتلكت ملهى ليلياً خاصاً بها في القاهرة في تسعينيات القرن التاسع عشر، وكانت واحدة من أوائل النجمات في مصر الحديثة. لكن ما زال هنالك جدل حول ما إذا كانت هي التي ابتكرت هذه الرقصة بالفعل أم لا، ولكني لم أرى أية صور تثبت أن رقصة الثريا كانت معروفة في تسعينيات القرن التاسع عشر أو القرن العشرين، على الرغم من وجود صور لنساء يرقصن أثناء موازنة الأرجيلة مثلاً على رؤوسهن، لذلك لا يبدو من المستحيل أن تكون شفيقة (أو أي شخص آخر) آخر) ربما هي التي ابتكرت رقصة الشمعدان.
ما الذي جعل عشرينيات القرن الماضي في القاهرة فترة من اللهو إلى هذه الدرجة؟
أعتقد أن هناك مزيجاً من الظروف التي جعلت بعض المدن الرومانسية الأخرى في عشرينيات القرن الماضي تعيش فترة من اللهو. ربما شعر الناس أنهم يستطيعون إيجاد شيء جديد. قال الكاتب المسرحي كارل زوكماير عن برلين في هذه الفترة إنها “ذاقت المستقبل، ولهذا السبب كنا سعداء باللهو والبرودة”. لكن مصر لم تكن باردة! كانت البلاد قد شهدت ثورة في عام 1919، وكانت مصر دولة مستقلة رسميًا وكانت جميع أنواع الحركات الجديدة تتصاعد. بالنسبة للجيل الذي بلغ سن الرشد في عشرينيات القرن الماضي، كان هناك شعور بأن التقدم ربما يكون ممكنًا، وإن كان يبدو صعبًا.
أخبرنا عن مشاعرك عندما تمشي في منطقة الأزبكية اليوم؟
اليوم الأزبكية مختلفة جداً. اختفت الكثير من المعالم مثل دار الأوبرا، وكازينو بديعة مصابني، وفندق شيبرد. لكن لا تزال هناك آثار. لا تزال هناك بعض النوادي والملاهي الليلية غير المألوفة، كما كان الحال في عشرينيات القرن الماضي. لا تزال هناك بعض دور السينما والمسارح. لكن الكثير من المعالم التي أعطت الحياة للمنطقة قد تلاشت.
هل الكتاب منشور باللغة العربية؟
أتفاوض حاليًا مع بعض الناشرين حول نشر الكتاب باللغة العربية وآمل أن نتوصل إلى اتفاق قريبًا، وأتمنى رؤية نسخة مترجمة من الكتاب!
هل يمكنك إخبارنا القليل عن نفسك. من أين أنت وأين تعيش الآن؟
نشأت في المملكة المتحدة ودرست الكلاسيكيات التي أحمل فيها درجة البكالوريوس. أثناء وجودي في الجامعة، زرت الخرطوم وهناك زاد اهتمامي باللغة العربية والثقافة العربية. أدركت أنه كان هناك الكثير الذي لم أتعلّمه ولم أواجهه أبدًا. بدأت في تعلّم اللغة العربية، وذهبت إلى القاهرة ودرست في الجامعة الأمريكية هناك. بعد بضع سنوات، شرعت في دراسة درجة الدكتوراه في جامعة إدنبرة.
أخيرًا، إذا كان بإمكانك تناول العشاء مع أحد الأشخاص الموجودين في الكتاب، فمن سيكون ولماذا؟
بلا شك، أود أن أذهب إلى إحدى الحفلات على عوامة منيرة المهدية في نهر النيل. في عشرينيات القرن الماضي، كانت السيدة منيرة نجمة المسرح والغناء الأكثر تألقًا، فضلاً عن كونها لاعبة بوكر أسطورية ومضيفة للحفلات. كانت هذه بلا شك الدعوة الأكثر إثارة في عشرينيات القاهرة الصاخبة.
صدر كتاب “منتصف الليل في القاهرة” عن دار نورتون للنشر في الولايات المتحدة، والساقي للكتب في المملكة المتحدة، والجامعة الأمريكية في القاهرة.