جعفر العقيلي
تتحدث رواية “مخمل” للكاتبة حزامة حبايب، عن أولئك البشر الذين تمضي حياتهم، دون أن يُلتفَت إليهم. إذ يقدم هذا العمل رؤيةً جديدة للحياة في المخيمات الفلسطينية بلغةٍ عذبة ناعمة مثل المخمل.
وبحسب بيان لجنة التحكيم التي قررت منح “مخمل” جائزة نجيب محفوظ للأدب (2017)، فإن هذه الرواية، تتميز بلغة غنية، وبتعاطفها مع موضوعها. حيث يولّد هذان العنصران وصفاً دقيقاً لمشقّة الحياة، لكنه وصفق يتدفق بحساسية ورقّة. كما تُعزى البطولة في الرواية، إلى شعرية ومهارة العزف على أوتار الكلمات، وإطلاق الصور مجنّحة الخيال، وتوازن إيقاع الجُمل محكمة البناء.
ومع إقرار حبايب بأن جائزة نجيب محفوظ مُنحت لعملِها هذا بعينه، إلا أنّها ترى أن ظلال الجائزة تتخطى ذلك لتشمل بالنسبة لها “رحلة متواصلة من الكتابة كحاجة تُستشعَر أكثر ما يمكن عند توقف الكتابة أو انقطاعها في لحظاتِ يأسٍ أو ضجر أو عجز أو تكاسل أو كآبة”.
وتضيف أن العودة إلى “المحفوظيات” في هذه الحالات، تبدو أمراً ملحّاً كي يتذكّر المرء أن الكتابة “لم تعد خياراً”، فقد كرّس نجيب محفوظ حياته على نحوٍ شبه كامل لفعل الكتابة كي يُنتج حياةً روائية بحجم الحياة. لذلك كان قرار حزامة أن تعيش الكتابة وتعيش فيها، حتى وإن انتزعتْ هذا العيشَ انتزاعاً.
وترى الكاتبة التي عُدَّتْ واحدةً من أبرز كتّاب القصة في الأردن وفلسطين ضمن جيل السرد التسعيني، أن لا كتابة في السرد من دون حكاية. ويطيب لها أن تتساءل: “كيف تأتينا الحكاية؟ كيف يطرق ناسُ الحكاية عتباتتا؟ كيف تتناسل الوجوه والروائح والأصوات والطرقات وحقب التاريخ الشخصي، الحقيقي جداً، والتاريخ السري والتاريخ المهمَل؟ كيف تحتمل صفحات السرد كل هذا الضجيج البشري؟ كيف يمكن أن تتسع المرويّةُ لحياةٍ عظيمة؟“.
هذه الأسئلة وشبيهاتها، لا تذْكُر حزامة أنها توقفتْ عندها كثيراً، ربما لأنها عاشتْ “في قلب محكيةٍ كبرى” على حد تعبيرها. لكن هذا لا يدعو إلى “التفاخر” أو “التبجّح” أو “الادّعاء”؛ فمحكيّتُها “تنهضُ فوق عمارة شاهقة من الخسارات، وتستمد مشروعيّتها من إرثٍ مُضْنٍ من الفقد، والمزيد من الفقد”.
وحول الشرارة التي أوقدتْ تجربتها في كتابة روايتها الثالثة؛ تقول حزامة إن “مخمل” جاءتها على هيئة هجوم مباغت على حواسها. وتضيف: “إنها لحظة ثمينة تلك التي يستطيع فيها الكاتب أن يقبض على الإحساس الأول في النص، أن يشهد تفتُّح أوراق الحكاية، أن ينحاز للفكرة المتوهّجة في الضلوع، وبخاصة إذا كان القلب ما يزال تحت تأثير واحدة من انكساراته الكثيرة، أو ربما في طور التعافي منها”.
وتستذكر لحظةَ التماعة الفكرة: “نمتُ ذات ليلة على عطشٍ كبيرٍ في قلبي، قبل أن أصحو في الفجر على رائحة عنيفة. لقد كانت رائحةَ طين طازج، تراب صَبرَ على الجفاف طويلاً وبلَّله أخيراً مطرٌ متمنّع. ومن وسط سحابة الرائحة الحسّية التي نفذت إلى روحي الدائخة، تخايَلَ أمامي فجأةً وجهُ امرأة.. وقفتُ هناك.. ساقاها غُرِستا في الطين، أو ربّما في تلك اللحظة كانت تُجبَل، لتتشكّل منحوتةً حيةً من الرغبة”.
وتتابع استعادتها لما حدث في المتخيَّل: “راقبتُ المرأةَ بافتتان وشيءٍ من أسى. كانت كلما تحاول أن تتنزع نفسها من الطين، تغوص أكثر. لم أشأ أن أمدّ لها يداً. كنتُ واثقةً أن هذا الكائن الشهي اختار أن يرسم مشهديته بطريقته. وما عليّ سوى أن أجمع في حضني مشاعر هذه المرأة التي فاضت من حواليها”.
وفي النهاية، تقول حزامة؛ “شقَّت امرأةُ الطين البهيةُ الطينَ والترابَ وماءَ السماء الهادر ورياحَ الجهات كلها وجفافَ النهارات ووحشةَ المساءات. حاكتْ حكايتَها من مخمل أثير، يتخايلُ في طبقاتِ الحرير الجوّانية فيه دفءٌ غافٍ وعشقٌ بطعم الحرمان”.
وتعود لتتحدث عن مركزية الحكاية قائلةً: “لقد اشتقّت امرأتي لنفسها في الحكاية حياةً أبقى من الحياة.. وفي الحكاية عاشت”.
ويطيب لحزامة أن تصف “مخمل” بأنها “رواية المرأة، عاشقةً ومعشوقةً، المرأة التي وإنْ أنهكها الضيمُ والمراراتُ وأزقةُ الحياة الوعرة وجبروتُ الرجال الذين نخرتهم هزائمُ التاريخ، فإنها تتقنُ صنعَ الحب وعيشَ الحب والموت كُرمى للحب”. وتؤكد في سياق متصل: “نساءُ هذه الرواية قادراتٌ على اقتناص البهجة من وسط القهر؛ وهنّ يتشهين الطعامَ والأقمشة المترفة وينتظرن رجلاً واحداً ووحيداً حتى ضمن فضاء عريض من البؤس والانتهاك والكبت عنوانه (المخيم)”.
لكن؛ هل تعرف حزامة –أو تدّعي أنها تعرف- كيف تبدأ حكايتها، أو من أين تبدأ؟ تقول: “قد نستدلُّ على أول طريق الكتابة، وبعضِ المفارق والمنعرجاتِ الأساسية، ولعلنا قادرون على أن (نُهَنْدِسَ) السطرَ الأولَ ونهجسَ بالجملة الافتتاحية والمشاعر الاستهلالية. لكننا، على الأرجح، لا نعرفُ إلى أين تقودُنا الرواية وكيف ستنتهي. وإذا سمحنا لأنفسنا أن نتجرّدَ من الأحكامِ المسبقة والآراءِ المتحيزة والرسائل الأخلاقية وآثام الأيديولوجيا، وأكذوبةِ انتصارِ الخيرِ والحقِ على الشر والظلم، فإننا سنُفاجأ بمنعطف السرد في النهاية”.
علينا، كما ترى حزامة، أن نثقَ بأن الحكاية تنطوي على قابليةِ التطور بطريقتها، فتمضي إلى حيث تأخذُها كل الاحتمالات؛ الممكنة وغير الممكنة معاً، تماماً كالحياة نفسها؛ كما إن الشخوص “الذين اعتقدنا، كرواة مغرورين، أننا صانعوهم، سينشقّون عنّا منذ أن يتكوّنوا شحماً ولحماً على الورق، متخطّين هشاشةَ خيالنا”.
وتوضح حزامة هذه المسألة؛ علاقة الكاتب بشخوصه ومدى سلطته عليه، بقولها: “صحيح أننا نخلقُ شخوص الرواية، أو نوحي بذلك بطريقة ما، لكنهم سرعان ما يخرجون من وصايتنا. وليس من سلطاتنا أن نحْييهم أو نتّخذَ بحقّهم حُكماً بالموت. الحكاية هي التي تُحيي وتُميت، وحين يموتُ ناسُ الحكاية الذين نحبُّهم، أو الذين يشبهوننا، حتى وإن لم نعترف بذاك الشبه صراحةً، فإنّ قلوبَنا يصيبُها كمدٌ شديد. نحزن؟ طبعاً! لكن في نهاية المطاف، هذا هو شرطُ الحياة وشرطُ السرد: أنّ الموت كما العيش؛ يُمليه منطقُ الحكاية لا التمنياتِ والآمال”.
وتتوقف حزامة عند هذه المحطة طويلاً قبل أن تواصل: “في كل مرة أخطُّ فيها مشهدَ موتٍ واقعاً لا محالة، أكون شفوقةً، عطوفةً، عطفَ الحياةِ الشحيح؛ وأحياناً أكون متجرِّدةً من الرأفة، قاسيةً، قسوةَ الحياة الغالبة. وفي كلتا الحالتين، أداري دموعي وحرقتي”. وهي لا تتردد في الكشف أنها بكتْ نساء “مخمل” كلهن، “النساء الجبارات، اللاتي غرسْنَ أظفارهن في حوائط الأيام. الملتاعات، الموجوعات، المنتظرات، الصبورات، الذاويات، مشرئبات الجسد من وراء أستار الليل، المتداريات من الريح بالريح، مناجيات الروح من تحت غلالات المطر. وفي كل مرة كنتُ أودّع فيها إحداهن، كان قلبي يتداعى”.
وهي إن كانت تشعر بالذنب أحياناً، إلّا أنها لا تستطيع أن تلوم نفسها. وتتساءل: “مَن أنا لأُحاكم أو أسأل؟ أنا في النهاية لستُ سوى حكّاءة، حتى وإن كنتُ غير محايدة”!
أما اللجوء للحكاية دون سواها؛ فتبرّره حزامة التي وُلدت ونشأت في الكويت ودرست فيها، بقولها إنها “امرأة بلا وطن”، ورثتْ من أبيها الفلسطيني حكايةً ناقصة عن بيتٍ كان لهم ذات وطن. وُلدتْ ونشأتْ في بيتٍ في المنفى، حاولوا أن يجعلوه يشبه بيتاً كان يمكن أن يكون لهم في الوطن، بيت مليء بحسّهم وحواسهم، بهمسهم ووشوشاتهم وضحكاتهم التي تعالقتْ مع عرَق أكفّهم على الحوائط، بنشيجهم الخافت الذي طرّز أرقَ الليالي. لكن البيت راح في حربٍ كانوا، كالعادة، ضحاياها الموعودين (والحديث هنا عن الغزو العراقي للكويت، 1990)، فقد تهاوت حوائطهم، وضاعت أشياؤهم الكثيرة التي كانوا يحسبونها لا غنى عنها لوجودهم.
“كل شيء ضاع” تقول حزامة؛ خشب الذكريات، والملابس التي كانت تتمدد على أجسادهم بقدرة قادر، وروزنامات السنوات الفائتة التي كانوا يحتفظون بها لصورِ الطبيعة المترفة فيها، وأشياء كثيرة غير ذات صلة!
وتسرد حزامة رحلتها مع البيت؛ المكان والفكرة: “حملتُ الوطنَ الفكرة، الوطنَ المتخيَّل، ومشيتُ في الحياة طريقاً طويلة ومرهقة، قطعتُ أياماً ومدناً وخرائط شائكة، تفيأتُ ظلالَ صحبٍ تفرّقوا عني تباعاً، وأسندتُ قامتي المنهكة إلى أعمدة الهواء والغبار، وتهشّم قلبي مراتٍ ومرات. وفي الطريق تعثّرتُ، ونهضتُ. وفي الطريق أيضاً، فقدتُ بيوتاً كثيرة، حاولت أن أجعل كلّاً منها وطناً أو شيئاً يشبهه، دون أن يتحقَّقَ الوطنُ أو شيءٌ يشبهه في أيٍّ منها”.
لكنّ حزامة نجحت في أن تستبقي شيئاً واحداً في رحلة الفقد المتتالي، وضنّتْ عليه من الضياع: الحكاية! فقد كانت الحكاية هي الدليل بأنها وُجدتْ يوماً. وهي البرهان بأنها عاشتْ حقاً. وفي مفترقات الحياة، أنقذتها الحكايةُ من نفسها التي تميل إلى تدمير ذاتها في أحيان كثيرة. آوتها واحتضنتها، وقَتْها وأبقتها وعزَّزت يقينها المهزوز بأن لها وطناً ينتظر أن تفترش طرقاتِه باللقاءات والذكريات الجديدة، وطمأنتها -ولو إلى حين- بأن “خيمتها” مؤقتة، وهي قطعاً إلى زوال.
هذا ما يجعل حزامة تؤكد بيقينيّة العارف: “سأواصل العيش. وسأواصل كتابة الحكاية. وسأمضي، ما استطعتُ المضيّ، في طريق الحياة الطويلة، وقد أقع في الطريق.. أعرفُ ذلك، لكنني أعرف أيضاً أني سأنهض. وسأجمع أشلاءَ الأيام وبقايا الوجوه الذائبة وصدى الأصوات وأبخرة العواطف المتبددة، والقليل من عبرة التيه والخسارة، وأصوغها -بأقل قدر ممكن من البلاغة- حكايةً تشبه وطناً حقيقياً متحقّقاً”. فهي، بالحكاية، ترسم خريطةَ العودة إلى الوطن، إلى بيتٍ هناك كان لها ذات وطن.. إلى بيت هناك سيكونُ لها ذات وطن.
وبفيضٍ من الوجد الذي يليق بحساسيةٍ مفرطة تجاه الأشياء، تردّد حزامة بثقةِ صاحبِ الحقّ الذي لا يساوم: “أنا حزامة حبايب، ابنة اللاجئ الفلسطيني حامد محمد حبايب، الذي غادر قريته الفلسطينية طفلاً في السابعة، ممسكاً يدَ أمه، لاهياً عن مآلِ البلاد وناسِ البلاد، غير واعٍ أنه استحال رمزاً لأكبر نكبات العصر.. أنا حزامة حبايب إنما أستعيدُ البلادَ وناسَ البلاد بالحكاية. أنا في كل حكاية، أعود إلى وطني.. قد لا أكون منتصرةً.. لكنني بالتأكيد أكون مهزومةً أقلّ”.
يشار إلى أن حزامة حبايب تحمل شهادة البكالوريوس في آداب اللغة الإنجليزية من جامعة الكويت، نالت جائزة مهرجان القدس للإبداع الشبابي عن مجموعتها القصصية الأولى “الرجل الذي يتكرر” (1992). وفي عام 1994، نشرت مجموعتها القصصية “التفاحات البعيدة”، ومُنحت جائزة رابطة الكتاب الأردنيين التقديرية. وفي عام 1997، صدرت لها المجموعة القصصية “شكل للغياب”، تلتها في عام 2001 مجموعة رابعة حملت عنوان “ليل أحلى”.
وبعد أن كرّستها كتاباتها صوتاً مميزاً في المشهد السردي العربي، نشرت حبايب روايتها الأولى “أصل الهوى” في عام 2007، ثم صدرت روايتها الثانية “قبل أن تنام الملكة” في عام 2011، وهي الرواية التي وُصفت بأنها “ملحمة روائية تتناول اللجوء الفلسطيني”، واختارتها صحيفة “الغارديان” البريطانية ضمن أفضل قراءات العام 2012. كما صدر لحزامة حبايب مجموعة نصوص شعرية بعنوان “استجداء” (2009).