يُعد واسيني الأعرج، الروائي الجزائري الذي يحتفل هذا الأسبوع بمرور 70 عاماً على ميلاده، واحداً من أبرز الأصوات الأدبية المعاصرة في العالم العربي، فقد استطاع أن يبني مشروعاً متماسكاً يقوم على استعادة الذاكرة التاريخية وإعادة إنتاجها في نصوص إبداعية تحتفي بالإنسان أولاً. وبفضل قدرته على تجاوز الأطر المحلية والانفتاح على القضايا الكونية، أصبح اسمه حاضراً في المشهدين العربي والعالمي، لتُقرأ أعماله في جامعات ومراكز بحثية، وتُدرّس في سياق الأدب المقارن، فحضوره لا يرتبط فقط بجماليات النص، بل بعمق الأسئلة التي يطرحها على قارئه.
تتميّز روايات الأعرج بقدرتها على المزج بين السرد الواقعي والخيال الروائي في إطار فني مشحون بالرموز والدلالات. فهو يكتب نصوصاً تنبض بالحياة، تحضر فيها المدن ككائنات حيّة، وتتنقل شخصياته بين الأزمنة كما لو كانت تعبر جسوراً خفية تربط الماضي بالحاضر. ففي روايات مثل “البيت الأندلسي” و”شرفات بحر الشمال”، نرى تداخل الحكايات والفضاءات في بنية معقّدة، لكنها في الوقت ذاته تحتفظ بسلاستها وتدفقها الذي يجذب القارئ ويجعله جزءاً من الرحلة.
واللغة عند واسيني الأعرج ليست أداة حيادية لنقل الأحداث، بل هي كيان نابض بالإيقاع الموسيقي والصور الشعرية. فهو يمنح الجملة أبعاداً وجدانية، ويصوغ نصوصه كما لو كانت مقطوعات موسيقية تحاكي الوجدان وتثير الخيال. وهذه العناية بالأسلوب جعلت رواياته أقرب إلى نصوص شعرية طويلة، ما أسهم في ترسيخ مكانته كواحد من أكثر الروائيين العرب تميّزاً على مستوى اللغة، وبهذا الأسلوب الفريد، تتحوّل القراءة إلى تجربة جمالية بحد ذاتها.
كما أن خلفيته الأكاديمية كأستاذ للأدب المقارن في الجزائر وفرنسا انعكست بوضوح على نصوصه. فهو يستحضر في أعماله سياقات ثقافية متعددة، ويجري حواراً مستمراً بين التراث العربي الإسلامي والموروث الأوروبي والمتوسطي. هذا التداخل الثقافي جعل رواياته جسوراً تربط الحضارات، وأتاح للقارئ فرصة التأمل في قضايا الهوية والانتماء في زمن العولمة. إنه لا يكتب من منطلق محلي فحسب، بل يقدّم نصوصاً تعانق التجربة الإنسانية الجامعة.
لقد حصد واسيني الأعرج شهرة واسعة في العالم العربي وأوروبا، إذ تُرجمت أعماله إلى الفرنسية، والإسبانية، والإيطالية، ولغات أخرى. هذا الانتشار العالمي ليس محض صدفة أو مجاملة ثقافية، بل لأنه يطرح في رواياته قضايا كونية تمسّ الذاكرة، والمنفى، والحرب، والحب، والحرية. إن نصوصه تملك القدرة على عبور اللغات والثقافات لأنها تُحاور الإنسان في جوهره، بعيداً عن الحواجز الجغرافية أو اللغوية.
وتمثل تجربة واسيني الأعرج نموذجاً للرواية العربية المعاصرة التي تحافظ على جذورها المحلية، وفي الوقت نفسه تنفتح على العالم. فهو يكتب التاريخ بعيون الحاضر، ويستشرف المستقبل بلغة تمزج الحلم بالواقع. وبين سطور نصوصه، يضع القارئ أمام أسئلة وجودية كبرى: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ وكيف نحافظ على ذاكرتنا وسط تيار النسيان العابر؟ في كل رواية، يترك الأعرج مساحة للتأمل، كأن نصوصه مرايا تعكس صورنا المتغيّرة.


