قرأتُ “الجريمة والعقاب” لدوستويوفسكي في وقت مبكّر بالعربية؛ كانت عبارة عن قصة كغيرها في قرابة مائة صفحة، في طبعة تعود إلى السبعينيات. بدت مجرّد حكاية بوليسية فيها مسحات من الغموض محبّبة، ولكن من ورائها لا يمكن أن نتحدّث عن روائي عملاق ولا عن بناء فذّ للشخصيات وللعالم الذي تتحرّك فيه، أو متانة في الحبكة والتمكّن من إرادتها.
لبدء فهم كل ذلك، كان عليّ بعد سنوات أن أصادف في مكتبة “المركز الثقافي الروسي” في تونس العاصمة، نسخة روسية من “الجريمة والعقاب”. لم أكن أقرأ الحروف الروسية، ولا زلت لا أقرؤها، ولكن حجم الرواية الضخم في لغتها الأصلية لا يمكن بحال أن يقابل “القصة” التي قرأتُها.
منذ ذلك الحين، حصل الكثير في فهم “الجريمة والعقاب” وتعقيداتها وعبقريّتها من خلال ترجمات أخرى، وقراءات في لغات غير العربية بالإضافة إلى صياغاتها في السينما والمسرح. لكن لو لم يتوفّر كل ذلك، كان عمل دوستويوفسكي سيظل مجرّد حكاية عن شاب قتل مرابية منتقماً من خلالها من كل شرور المجتمع، ثم برع في إخفاء جريمته إلى حين. ومثله، إلى حين فقط تبرع المختصرات في إخفاء “جريمتها”.
قد تكون هذه “الجريمة” ضرورة أو حلاً ابتكارياً إزاء صعوبات ترجمة الأعمال الضخمة أو تعقيدات الإجراءات القانونية لجعل الترجمة شرعية. وقتها قد نغيّر توصيفنا بالكامل فنعتبر من قام بذلك قد قدّم خدمة للثقافة العربية.
اختصار رواية ليس عملية نادرة في عالم الكتاب العربي، فمعظم الأدب الروسي وصلنا هكذا، وجزء كبير من الأدب الفرنسي والألماني والإنجليزي. كانت هذه المختصرات أوّل السبل للتعرّف إلى مؤلفات كتّاب أساسيين في الرواية العالمية مثل تولستوي وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهما.
تتحوّل المختصرات غالباً إلى بضاعة رائجة، ولذلك فغالباً ما تكون نسخة “الجريمة والعقاب” ذات المئة صفحة أكثر تداولاً من تلك التي تقع في مجلّدين، والأمر سيّان مع “دون كيشوت” لميغيل دي سرفانتس، أو “البؤساء” لـ فيكتور هيغو.
ثمة جانب إيجابي لا ينكر لهذه المختصرات، وهي أنها تغذّي الثقافة العربية بأساسيات الفن السردي وتضعه على ذمة شريحة موسّعة من الجمهور، غير أن ثمن ذلك هو ما تسقطه هذه المختصرات من “الأدب الرفيع”، حيث أنها غالباً تضع يدها على كبريات الروايات بالذات.
وكثيراً ما يجد القارئ الذي التقى بدوستويوفسكي في طبعة شعبية صغيرة صعوبة في إعادة قراءته في صيغة مكتملة، فيصبح حكمه على العمل ومؤلفه قائماً على النص الذي توفّر له، وهو في الغالب لا يكون أكثر من ترجمة للخط السردي دون بحث عن استعادة الأسلوب الذي كُتب به في الأصل أو المناخ اللغوي للمرحلة التي أتت ضمنها وغير ذلك من دقائق الترجمات الرصينة.
تبدو الظاهرة وقد تقلّصت بشكل كبير في الساحة العربية، حيث باتت الترجمات أكثر تدفّقاً وذات قدرة أعلى على متابعة جديد الرواية العالمية بسلاسة أكبر، وربما استفادت في ذلك من تبلور شريحة من المترجمين العرب المتمرّسين، وهو ما كان غير متوفراً منذ عقود قليلة.
أكثر من ذلك، نجد اليوم احتفاء بـ “الطبعة الشرعية الكاملة”، حيث أن ناشريها لا ينسون أن يضعوها على أغلفة مطبوعاتهم، كما هو الحال هذا العام حين أعادت “دار التنوير” نشر أعمال ماركيز. بالنسبة لي، قد أحب أن تكون هذه الطبعة الجميلة في مكتبتي، غير أن ماركيز سيظل في ذهني محكوماً برأيي فيه الذي صاغته طبعات “دار العودة” التي لا يحمل بعضها حتى اسم المترجم