برحيل الكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو في مايو 2025، طويت صفحة أحد أبرز الأدباء الأفارقة الذين أعادوا صياغة العلاقة بين الأدب والهوية، وبين الكلمة والاستعمار. إذ لكم يكن نغوغي مجرد روائي أو مسرحي، بل كان مفكراً ومثقفاً مقاوماً حمل قضايا بلاده على كتفيه، وواجه آلة الاستعمار الثقافي بالقلم، والفكر، واللغة الأم.
وُلد نغوغي في 5 يناير 1938 في كينيا تحت الحكم البريطاني، وعاش تحولات بلاده من الاستعمار إلى الاستقلال، ومن القهر إلى المقاومة. كتب أولى رواياته بالإنجليزية، منها “لا تبكِ أيها الطفل” (1964) و”أحلام في حقبة حرب”، لكن التحوّل الجذري في مسيرته جاء لاحقاً حين أعلن “القطيعة” مع اللغة الإنجليزية، وقرر الكتابة بلغته الأم، كيكويو، في خطوة صادمة للعالم الأدبي الغربي، لكنها كانت استعادة رمزية لوطنه وثقافته.
لم يكن هذا القرار سهلاً أو مجرد موقف لغوي، بل كان تحدياً للهيمنة الثقافية الاستعمارية. فقد أدرك نغوغي أن اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل أداة تشكيل للوعي والهوية. وفي كتابه الشهير “تصفية استعمار العقل” (1986)، كتب: “من المستحيل تحرير الذات باستخدام لغة المستعمِر”.
في عام 1977، اعتُقل نغوغي وسُجن لمدة عام دون محاكمة بسبب مسرحيته “سأتزوج عندما أريد”، التي كتبها بلغة كيكويو، وانتقد فيها النظام الاجتماعي والسياسي في كينيا. وخلال فترة سجنه، كتب روايته “شيطان على صليب” على أوراق المرحاض، لتكون أول رواية حديثة تُكتب بلغة كيكويو. وبعد الإفراج عنه، واجه تهديدات بالقتل، ما اضطره إلى المنفى في عام 1982. أمضى سنوات في المملكة المتحدة ثم في الولايات المتحدة، حيث عمل أستاذًا للأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا. ورغم البُعد، ظل قلبه معلّقاً بكينيا، وعاد إليها في عام 2004 بعد نهاية حكم الرئيس دانيال أراب موي.
نشر نغوغي أكثر من 25 كتاباً، تنوعت بين الرواية والمسرح والمقالة والسيرة الذاتية، ومن بينها: “حبة قمح”، و”بتلات الدم”، و”ماتيجاري”، و”ساحر الغربان”. كما كتب ثلاثية سيرته الذاتية التي توثق رحلته من الطفولة إلى المنفى. ورغم ترشيحه المتكرر لجائزة نوبل، لم ينلها نغوغي. لكنه قال في مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة بالولايات المتحدة: “أقدّر ما أسميه نوبل القلب، حين يقرأ أحدهم كتابي ويخبرني كيف أثّر فيه. هذه الجائزة ديمقراطية ومتاحة لكل كاتب”.
وكانت “مجموعة كلمات” قد نشرت مجموعة من أهم أعمال نغوغي باللغة العربية، ومن بينها الملحمة الشعرية “التاسوع الكامل… ملحمة جيكويو ومومبي”، ورواية “بتلات الدم”، ورواية “شيطان على الصليب”، إلى جانب مذكراته الشخصية “أحلام في حقبة حرب” التي يسرد فيها طفولته في كينيا وسط مقاومة الاستعمار البريطاني.
برحيل نغوغي وا ثيونغو عن عمر ناهز 87 عاماً، فقدت إفريقيا والعالم صوتاً أدبياً فريداً، لكن إرثه سيظل حياً في قلوب القراء والكُتّاب الذين ألهمهم، وفي كل نص كتبه بلغته الأم، متحدياً بها حدود الاستعمار، ومؤمناً أن الهوية تبدأ من اللغة.