تشهد فرنسا حراكاً لافتاً في عالم الكتب الفنية، تقوده دور نشر مستقلة أعادت تعريف كتاب الفن بوصفه مساحة إبداعية قائمة بذاتها، لا مجرد وعاء للنص أو الصورة. فبينما يتميّز المشهد الفرنسي بثرائه، مع نشر نحو 75 ألف كتاب سنوياً وشبكة واسعة من المكتبات المستقلة، يظل السوق خاضعاً لهيمنة عدد محدود من المجموعات الكبرى. في هذا السياق، برزت منذ مطلع الألفية الجديدة مبادرات نشر مستقلة، خاصة في مجالات الفن والتصميم والتصوير، نجحت في كسر القواعد السائدة وإعادة التفكير في العلاقة بين الشكل والمحتوى.
ومنذ عام 2010، شكّلت فعالية “أوف برنت” في باريس منصة سنوية تحتفي بكتب الفن المستقلة، حيث تحوّلت هذه الإصدارات إلى ظاهرة ثقافية تحظى باهتمام الفنانين وجيل الشباب على حد سواء. وتُمنح خلال المعرض جوائز مرموقة تكافئ التجارب الأكثر جرأة وابتكاراً، ما أسهم في تعزيز مكانة كتاب الفن كعمل إبداعي متكامل. كما باتت هذه الدور المستقلة حاضرة بقوة في المعارض الدولية، وفي مقدمتها معرض طوكيو لكتب الفن، حيث تعرض نماذج تعكس تنوّع الرؤى والأساليب وتؤكد الطابع العالمي لهذا التيار.
وتُعد دار “آر في بي بوكس” RVB Books مثالاً بارزاً على هذا التوجه، إذ تتعامل مع الكتاب بوصفه عملاً فنياً مستقلاً، وترافق الفنانين منذ المراحل الأولى للمشروع، لتشكيل الإيقاع البصري والبنية السردية للكتاب. وقد أسهم هذا النهج في إنتاج أعمال حازت جوائز دولية، وجمعت بين الطباعة الجريئة والتجريب في الألوان والصيغ، إلى جانب إصدارات محدودة دخلت مجموعات مؤسسات فنية كبرى. وفي المقابل، تحرص الدار على تقديم كتب ميسّرة تصل إلى جمهور أوسع، ما يعكس توازناً بين النخبوية والانفتاح.
إلى جانب ذلك، تبرز دور مثل “إصدارات بي 42” Éditions B42 التي تجعل من التصميم الطباعي مدخلاً أساسياً للتجربة القرائية، وتتعامل مع الصفحة بوصفها فضاءً حركياً يعيد ترتيب العلاقة بين النص والصورة. كما تقدّم “إصدارات فيديل” Fidèle Éditions” نموذجاً مختلفاً، انطلق من تقنيات الطباعة البديلة ليؤسس مكتبة فنية تجمع بين القصص المصوّرة وكتب الرسم والتجارب البصرية الحرة. ويجمع هؤلاء الناشرون على أن الاستقلال يمنحهم مساحة للتعبير والبحث والدفاع عن رؤيتهم الخاصة، في مشهد يؤكد أن كتاب الفن في فرنسا لم يعد تابعاً للتقاليد، بل مختبراً مفتوحاً لإعادة ابتكار فعل النشر نفسه.



