في قلب الصحراء الممتدة بالجزء الجنوبي الشرقي من إمارة الشارقة، حيث تتعانق الكثبان الرملية مع الجبال الصامتة، تقف منطقة مليحة كقصيدة مفتوحة على الأفق.. قصيدة لم تكتمل أبياتها بعد، تنتظر من يخطّها بحبر الروح. هنا، حيث الرياح ترسم على الرمل نقوشاً متبدّلة، وحيث الغروب يحوّل الكثبان إلى نارٍ من ذهب ونحاس، يجد الكاتب نفسه في مواجهة مع أبسط صور الجمال وأكثرها عمقاً. فالصمت الذي يخيّم على المكان ليس فراغاً، بل امتلاءٌ يفيض بالمعاني، وحضور خفيّ يجعل الكلمات تخرج من قلب الأرض قبل أن تخرج من قلب الكاتب.
كل شروق في مليحة يمثل بداية فصل جديد، وكل غروب يشبه خاتمة قصيدة لم تُكتب بعد. الليل هنا ليس عتمة، بل بحر من نجوم ينساب على الجبال مثل وشاح سماوي، يذكّر الأديب بأن الإنسان صغير أمام عظمة الكون، وأن الكلمة قد تكون وسيلته الوحيدة لترك أثر عابر في رمال الزمن. ومن تحت هذا القبو المضيء، تخرج الحكايات القديمة كأنها صدىً لأمم سكنت هذه الأرض منذ آلاف السنين، فاختلطت آثارها بأسرار الصخور وبأصوات الذين عبروا المكان حاملين قصصهم وأناشيدهم.
ويبدو أن اتساع مليحة لا يمنح الكاتب مشاهد بصرية فحسب، بل يوقظ في داخله ذاكرة أعمق.. ذاكرة تتجاوز حدود الفرد لتصير ذاكرة جماعية للإنسان في بحثه الأبدي عن المعنى. ففي صحرائها يتعلّم المرء أن الكلمة، مثل حبة الرمل، بسيطة في ظاهرها، لكنها قادرة على بناء كثبان شاهقة من الصور والأفكار. وهكذا تتحوّل مليحة من موقع جغرافي إلى فضاء إبداعي يربط بين الماضي والحاضر، بين الأسطورة والواقع، وبين الإنسان وأرضه التي لا تكفّ عن الإلهام.
ولعل سر سحرها يكمن في هذا التناقض الفاتن: أرض صامتة لكنها مفعمة بالأصوات الداخلية، قاحلة في ظاهرها لكنها غنية بما توحي به من قصص، لتبدو مثل صحراء تُذكّر الأديب بأن اللغة لا تُستمد من ازدحام المدن وحدها، بل من فراغٍ واسع يفتح أبواب المخيلة على احتمالات لا حصر لها. وهكذا تبقى مليحة، بجبالها وصحرائها، مرآةً تعكس جوهر الكتابة نفسها: رحلة بحث عن المعنى في مواجهة اللانهائي.



