كانت الدول الاسكندنافية قبل قرن من الزمان مكانًا كئيباً، يصعب العيش فيه، لكنها أصبحت خلال العقد المنصرم إحدى أفضل الدول للعيش وكذلك أكبر منتج لروايات الجريمة في العالم.
السويديان ستيج لارسن وهينينغ مانكل مؤلفا سلسلة روليات الجريمة البوليسية المشهورة جداً “Nordic noir” غادرا عالم الكتابة في السنوات الأخيرة. فقد توفي لارسن بنوبة قلبية في العام 2004 قبل أن يصدم كتابه الثالث “The girl with the dragon tattoo” إحساس العالم. أما مانكل فقد فارق الحياة في 2015 بعد معاناة مع مرض الزهايمر مودعاً الشخصية الوهمية وبطل رواياته المشهور الشرطي كورت والندر الذي تربعت أعماله على صدارة أرقام المبيعات.
ورغم رحيل هذين المؤلفين الكبيرين عن الحياة، مازلت ملايين النسخ من أعمالهما تباع حتى الآن، حيث بيعت حوالي 50 مليون نسخة من رواية “The girl with the dragon tattoo” وحدها، وعشرات الملايين من الروايات الأخرى في دول كثيرة حول العالم.
ريادة في أدب الجريمة!
اشتهرت الدول الاسكندنافية تقليدياً بالكتابة عن روايات الجريمة. فمثلاً كان الزوجان بير واهلو وماغ سجوال في السويد، ذوا شعبية كبيرة ولديهما الكثير من المتابعين المخلصين والمولعون برواياتهم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فهما اللذان صنعا أشهر شخصيتين وهميتين في سلسلة روايات الجريمة البوليسية “Nordic noir” ذائعة الصيت حالياً.
مجموعة من الكتاب الجدد أقسموا على إبقاء الشعلة ملتهبة في هذا العالم أمثال الكاتب النرويجي جو نسبو والسويدية كاميلا لاكبيرغ، لتمتد أمواج بحر الكتابة في عالم رويات الجريمة إلى ما بعد الخيال والكلمة المكتوبة. ويشاركهما هذا الشغف كاتب الروايات البوليسية للأطفال المدرس السابق والكاتب السويدي المشهور مارتن ودمارك الذي ترجمت أعماله إلى أكثر من 34 لغة حول العالم.
هناك بعض الأسباب التي جعلت الكتاب الاسكندنافيين يهتمون بهذا النوع من الكتابة أكثر من غيرها، منها ببساطة حجم المبيعات الكبير والإقبال الجماهيري الواسع على شراء هذا النوع من الروايات، مما جعلها المادة المفضلة للكتابة باستمرار.
كتب مانكل سبع روايات وقام بصناعة العديد من الشخصيات في رواياته السابقة كلها لم تحقق أية مكاسب تذكر في حجم المبيعات إلى أن انتقل للكتابة عن روايات الجريمة في سلسلة “Nordic noir”. هناك أيضاً النرويجية كارين فوسام الملقبة بـ”ملكة روايات الجريمة” في النرويج، والتي كانت شاعرة قبل أن تنتقل للكتابة. الكاتب الوحيد الذي تمتع بشهرة عالمية في عالم روايات الجريمة قبل الانتشار الواسع لهذا النوع من الروايات هو الكاتب الدنمركي بيتر هوغ.
الدرس واضح هنا، إذا أردت أن تكون رواياتك مشهورة وعالمية خصوصاً للناطقين بالإنجليزية، فما عليك إلا أن تكتب عن جريمة مروعة حتى لو لم تسمع بمثلها في بلدك من قبل.
السويدي لارسن كغيره من مشاهير الكتاب العديدون في هذا المجال، بدأ حياته كمحرر متواضع في مجلة ضد العنصرية ثم كاتباً في مجلات الخيال العلمي والصحف السياسية المحلية، لكنه انتقل قبل وفاته للكتابة في عالم روايات الجريمة منهياً كتابة رواياته الثلاث الأولى. تم إنتاج فيلم مأخوذ من روايته بعنوان ” The Girl Who Played with Fire” عرض في يوليو من العام 2009، مما ثبت مكانة لارسن كأفضل كاتب لروايات الجريمة في العالم.
رواياته التي أصبحت أسطورة لهذا النوع من الكتابة الآن، هي ليست الأفضل مبيعاً على الإطلاق لكنها غدت مثالاً يحتذى به. فلارسن يمتلك مهارة أكبر من مانكل عندما يزيد التناقض بين بيئة قصصه واستوكهولم المعاصرة ومن ثم يرسم صورة مختلفة للجرائم التي تدور حولها المؤامرات في رواياته.
بهذه الطريقة انتقلت روايات لارسن من استوكهولم لتنطلق إلى العالمية. لا يقل أسلوبه العصري روعة عن تصاميم “IKEA” المميزة أو عن شهرة طبق كرات اللحم المفضل لدى السويديين.
العنف المتزايد في المجتمعات المسالمة
يتميز كتاب روايات الجريمة في دول الشمال اليوم عن أسلافهم من الكتاب بخاصيتين، الأولى هي أن ثقافتهم اليوم أصبحت أكثر تنوعاً من ذي قبل، والثانية أن مجتمعاتهم المسالمة تعرضت إلى نوبات عنف لم يسبق لها مثيل، مثل إغتيال رئيس الوزراء السويدي السابق أولوف بالمه عام 1986، ومن ثم إغتيال وزيرة الخارجية السويدية آنا لينيد في عام 2003، والتفجير الإرهابي في أوسلو الذي قام به اليميني المتطرف أندرس بيرينغ بريفيك في 2011 بسيارة مفخخة وأودى بحياة ثمانية أشخاص.
تتحدث سلسلة “Nordic noir” في جزء كبير منها عن المقارنة بين معدلات الجريمة المنخفضة والثقافة الأحادية اللون التي كانت سائدة في الدول الاسكندنافية من قبل، وما آلت إليه الأمور اليوم بكل ما تحمله من تهديدات.
كان مانكل مهووساً في كتاباته بالحديث عن الخلل الذي حل بحياة القرى والبلدات النائية بسبب القوى الخارجية الجديدة المتمثلة بالهجرة وظهور العصابات الإجرامية. وتركز حلقات المسلسل النرويجي الشهير “The Killing” على المخاوف من المهاجرين والأقليات في المجتمع.
وبفضل إسهامات لارسن وغيره من كتاب روايات الجريمة في الدول الاسكندنافية، أصبحت هذه الإصدارات من أهم وأكبر صادرات المنطقة وعلامة تجارية فارقة مع ضمان للجودة ونظام توزيع عالمي ممتد من استوكهولم وحتى هوليوود.