تُعَد دار صادر للنشر والتوزيع في لبنان من أبرز المؤسسات الثقافية التي أسهمت في إثراء المكتبة العربية على مدار أكثر من قرن ونصف. بفضل تاريخها الطويل وإسهاماتها العديدة، أصبحت رمزاً للإبداع والنشر في العالم العربي. ورغم ما واجهته الدار من تحديات عديدة؛ من الأزمات الاقتصادية والحروب إلى الاضطرابات السياسية، إلا أنها استطاعت الاستمرار بفضل قدرتها على التكيّف وابتكار حلول جديدة. واليوم، تواصل دار صادر تقديم إصدارات متميّزة تعزز من دورها كمركز ثقافي عربي، متفرّدة بما تقدمه من مجلّدات، ومراجع، وأمهات الكتب.
من المسابح إلى ريادة النشر
يعود تاريخ دار صادر إلى العام 1863، عندما افتتح إبراهيم صادر دكاناً في سوق “أبو النصر” ببيروت، ليبيع فيه المسابح التي كان يصنعها بنفسه. شكّل هذا الدكان نقطة الانطلاق لتحويل الدار إلى مؤسسة ثقافية بارزة، إذ تحوّل فيما بعد إلى “المكتبة العمومية”، التي كانت من أولى المكتبات في المدينة.
ركزت “المكتبة العمومية” في بداياتها على طباعة الكتب الدينية، لكنها سرعان ما توسعت لتشمل نشر الأدب، ومع بداية القرن العشرين بدأت “دار صادر” – بقيادة أولاد إبراهيم صادر – بتعزيز مكانتها كمؤسسة نشر رائدة. ثم انتقلت الدار إلى الجيل الرابع من العائلة بإدارة الإخوة سليم وإبراهيم ونبيل (أبناء أنطون صادر)، لتصبح فيما بعد من أبرز دور النشر في لبنان.
تأثرت دار صادر بشدة بالأزمات التي مر بها لبنان، بما في ذلك الحرب العالمية الأولى والثانية، والحرب الأهلية اللبنانية. ومع ذلك، استطاعت الصمود والتأقلم مع هذه التحديات بفضل الإرادة القوية للقائمين عليها. في الوقت الحالي، يديرها الجيل الرابع بقيادة نبيل صادر، الذي يواصل مسيرة الإبداع والابتكار، مستعداً لنقل دفة القيادة إلى الجيل الخامس.
على مدى مسيرتها الطويلة، حصلت دار صادر على تقدير كبير من الأوساط الثقافية والأدبية. تم تكريمها من قبل “الديوان – البيت الثقافي العربي” في برلين، في معرض “الديوان الأول للكتاب العربي”، بمناسبة مرور 160 عاماً على تأسيسها.
إرث أدبي غني ومراجع قيمة
في السنوات الأولى لتأسيسها؛ ركزت الدار على نشر مجموعة متنوعة من الكتب التي تركت بصمة واضحة في ساحة النشر العربي، من أهمها “مراحل الاستقلال” الذي يعد من أوائل الأعمال التي تناولت تاريخ المنطقة بأسلوب علمي منهجي، وكتاب “أدب الحياة” لكمال جنبلاط، وعدداً من المجلات الأدبية والثقافية؛ مثل مجلة “الأنيس” ومجلة “الثقافة”.
عام 1903، صدرت مجموعة “مائة حكاية قصيرة للأولاد”، مُعرّبة عن اللغة الفرنسية، وهي واحدة من أولى الترجمات التي أُعدت خصيصاً للأطفال في لبنان. هذا العمل لم يقتصر على كونه مصدراً تعليمياً، بل كان له دور بارز في إدخال القصص المترجمة إلى ثقافة القراءة العربية.
استمرت هذه التوجهات في التوسع خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، ممهدة الطريق لتحوّل المكتبة العمومية إلى أحد المراجع الأدبية الرائدة، قبل أن تتحوّل لاحقاً إلى “دار صادر” التي أصبحت رمزاً للنشر الأدبي والعلمي في العالم العربي.
تجديد وإبداع في عالم النشر الحديث
في إطار التحديث المستمر لمكتبتها، تواصل دار صادر نشر أعمال حديثة بجودة عالية. من أبرز منشوراتها الحديثة “ألف ليلة وليلة” الذي يُعد جوهرة الأدب العربي الشعبي، إذ تمت إعادة طباعته بأسلوب يجمع بين الحفاظ على التراث والتقديم العصري. كما أصدرت “الطبقات الكبرى” لابن سعد.
وبين الإصدارات البارزة الأخرى، يأتي “البداية والنهاية” لابن كثير، العمل التاريخي الموسوعي الذي يروي تطور الأحداث الكبرى في التاريخ الإسلامي. وتواصل دار صادر نشر المجلّدات المتخصصة وأمهات الكتب التي تثري مكتبة القارئ العربي، ما يعكس التزامها العميق بنشر المعرفة.
بتخطيها عامها الـ160، تواصل الدار تقديم مساهمات قيّمة في إثراء المكتبة العربية وتجاوز التحديات العصرية، مستمرةً في دعم الحركة الأدبية والفكرية عبر الأجيال.