في تقديمها لترجمة ديوان الشاعر العالمي روبندرونات طاغور، “قرابين الغناء”، تروي الشاعرة الإماراتية ظبية خميس حكاية انتشار كتاب طاغور، وقصة حصوله على جائزة نوبل للآداب، فتسرد:
“في عام 1912 قرر فجأة العودة إلى بريطانيا لأول مرة منذ قد غادرها وكان في عامه الواحد والخمسين، وكان معه أحد أبنائه، وفي الطريق إلى بريطانيا بدأ الترجمة الأولى إلى الإنجليزية لأول مرة لآخر أعماله آنذاك “قرابين الغناء”.
كتبها بخط يده في دفتر صغير كان يحمله في جيبه معه، وعند وصولهما إلى لندن نسي أبنه حقيبة أبيه التي تحتوي ذلك الدفتر الصغير في محطة لقطار الأنفاق، ومن حسن الحظ أن أحدهم عثر على تلك الحقيبة وأعادها في اليوم التالي، وقد أطلع على ذلك الدفتر أحد أصدقاء طاغور من الرسامين، وانبهر بما قد رأته عيناه، فاتصل بصديقه الشاعر و. ب. ييتس وأقنعه بقراءة ذلك الدفتر المخربش عليه بخط اليد، وقد انبهر ييتس بما قد قرأ وكتب فيما بعد مقدمته الشهيرة لكتاب “قرابين الغناء”، الذي طبع في طبعة محدودة في العام 1912، ومن ثم فإن الشهرة اللاحقة تحققت للشاعر طاغور وكتابه فوراً بعد ذلك النشر في الأوساط الأدبية الإنجليزية في لندن، وكان ذلك الحدث بوابة أولى للكشف عنن روعة الهند وعمقها الروحي بالنسبة إلى الغرب، وتلا ذلك فوزه بجائزة نوبل في عام 1913، وأخذته الشهرة ليحضر ويقرأ ويتحدث حول العالم”.
يكتنف هذه الواقعة الكثير من الأطروحات الثقافية حول أهمية الترجمة، ودورها في تحقيق الحضور المعرفي للبلدان على خريطة الحضارة العالمية، فمنها يمكن الوقوف عند أهمية اللغة الوسيطة في التعرف على حضارات كبيرة تستتر خلف النصوص الإبداعية، ومنها نقف على واقع الترجمة العربية، سواءً من اللغات الأخرى إلى العربية، أو العكس، إضافة إلى إمكانية الوصول منها إلى أزمة النص الإبداعي العربي ومحدودية حضوره عالمياً. يتأكد ذلك بالوقوف عند حكاية أخرى يرويها كبير الرواية الداغستانية رسول حمزاتوف، فمن كان سيلتفت إلى النتاج الثقافي لبلد مثل داغستان، ومن كان سيقف عند جماليات عاصمتها محج قلعة، لولا ما قدمه حمزاتوف في كتابه “داغستان بلدي”، ولولا الترجمة التي وضعت بلاداً شاسعة بين أيدينا، وكأنه الصوت الإبداعي العالي الذي هتف في العالم: نحن هنا، انظروا إلينا، واقرأوا سيرة بلادنا بكل تفاصيلها. يثير ذلك كله الحديث عن واقع الترجمة في العالم العربي، فما تقدمه الإحصاءات حول الترجمة يشير إلى أزمة صعبة، إذ يشير تقرير اليونسكو حول واقع الترجمة العربية، أن عدد الكتب المترجمة في العالم العربي بلغ خُمس ما يُترجَم في دولة صغيرة مثل اليونان، وكان متوسط عدد الكتب المترجمة على مدى خمس سنوات في النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين 4.4 كتاب لكل مليون مواطن (أقل من كتاب لكل مليون عربي في السنة) بينما في المجر كان الرقم 519 كتاباً لكل مليون، وفى إسبانيا 920 كتاباً لكل مليون، وتشير التقارير إلى أن الحصيلة الكلية لما تُرجم إلى العربية منذ عصر الخليفة العبّاسي المأمون إلى العصر الحالي تقارب الـ10000 كتاب.
مقابل هذا الواقع للترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية، تطل أزمة مرادفة تتمثل في الترجمة من العربية إلى سائر اللغات، إذ تشير الكاتبة أماني أبو رحمة في دراسة بعنوان “حركة الترجمة في العالم العربي” إن عدد ما ترجم عن العربية كان محدوداً جداً، وبالكاد وصل عدد ما ترجم إلى 401 عملاً إلى اللغات الست (الفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والألمانية، والإسبانية، والبرتغالية) بين عامي 1948 و1968. وتصدرت حكايات “ألف ليلة وليلة” معظم الأعمال المختارة، إذ ترجمت 275 مرة، في حين كان عدد النصوص الأدبية المعاصرة المتاحة بهذه اللغات 74 نصاً، والكلاسيكية 52 نصاً. لا تفتح تلك الدراسات وغيرها سوى الباب على واقع الترجمة في العالم العربي، وضرورة السعي بكامل العتاد الثقافي لتعزيزها وزيادتها، ولعل المشاريع العربية التي بدأت بالظهور في العقد الأخير، ومن أبرزها مشروع “كلمة” في أبوظبي، وصندوق معرض الشارقة الدولي للكتاب للترجمة، إضافة إلى إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون في دولة الكويت، تشكل بارقة أمل كي تظل الترجمة جسراً للتواصل مع العالم، وتعريفه بثقافتنا، ونافذة نفتح من خلالها عيوننا على الآخر، وحضارته، وننتقل إلى فضاء معرفي نخرج منه خارج أسوار اللغة.