تشكّل مبادرة صندوق الشارقة لاستدامة النشر (انشر) علامة فارقة في الجهود الإماراتية الرامية إلى تمكين قطاع النشر وتعزيز حضوره على المستويين المحلي والعالمي. وفي أحدث محطاته، احتفى الصندوق مؤخراً بتخريج الدفعة الأولى من المشاركين في “مسار النمو” لعام 2025، ضمن برنامج طموح يهدف إلى الارتقاء بقدرات دور النشر العاملة في الدولة، ومرافقتها برحلتها نحو التوسع المستدام وتعزيز تنافسيتها في سوق دائم التحوّل.
ويعكس تخريج 12 دار نشر من بين 62 متقدماً حجم التنافسية العالية التي يتمتع بها البرنامج، حيث جرى اختيار دور النشر وفق معايير دقيقة تشمل جودة المحتوى الثقافي الصادر عنها، وامتلاك رؤية واضحة للتوسع، والقدرة على تبني استراتيجيات مدروسة لمواكبة تطورات الصناعة. وأسهم هذا الانتقاء النوعي في جمع طيف متنوع من دور النشر الإماراتية تحت مظلة تدريب مكثف يجمع بين الرؤية الاستراتيجية والخبرة التطبيقية.
وخلال البرنامج، الذي يقام تحت إدارة هيئة الشارقة للكتاب، وبالشراكة مع جمعية الناشرين الإماراتيين والمنطقة الحرة لمدينة الشارقة للنشر، تلقى المشاركون تدريباً متخصصاً في مجالات متعددة أبرزها النماذج التجارية الحديثة، والتسويق الرقمي، وتحليل البيانات، وإدارة حقوق النشر، إلى جانب ورش عمل تفاعلية مع خبراء دوليين في صناعة الكتاب، وهو ما وفر للمشاركين أدوات عملية تعزز من مرونة مؤسساتهم وتُمكّنهم من بناء نماذج أعمال أكثر استدامة وابتكاراً.
لكن ما يميّز مبادرة “انشر” ليس التدريب وحده، بل حزمة الدعم الشاملة التي تستمر بعد التخرّج. إذ يحظى الخريجون بخدمات محاسبية لمدة عام، وإمكانية الحصول على منحة الشارقة الدولية للترجمة، والانضمام إلى منصة “إنغرام” العالمية للتوزيع، بالإضافة إلى تسهيلات مالية مرتبطة بالعقود، وجلسات استشارية متخصصة، وأولوية المشاركة في برامج الصندوق المستقبلية. هذه البنية المتكاملة تمنح الناشرين جسراً عملياً للانتقال من الاستقرار التشغيلي إلى التوسع الاستراتيجي.
وتترجم المبادرة رؤية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وإشراف الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، في بناء بيئة نشر عربية قادرة على المنافسة عالمياً. حيث أكدت الشيخة بدور القاسمي أن “مسار النمو” لا يستهدف فقط ضمان بقاء الناشرين، بل يدفعهم إلى التفكير بروح المبادرة والتميّز والإبداع، بما يثري قطاع النشر العربي ويعزز حضوره في الأسواق الدولية.
ويجمع هذا المشروع بين دعم القدرات الفردية للناشرين وبين رسم ملامح مستقبل قطاع النشر العربي، كما أشار أحمد بن ركاض العامري، الرئيس التنفيذي لهيئة الشارقة للكتاب، إلى أن البرنامج يرسّخ خريطة توسع قائمة على الابتكار والاستدامة، بينما اعتبر راشد الكوس، المدير التنفيذي لجمعية الناشرين الإماراتيين، أن الخريجين جسّدوا واقعياً كيفية تحويل الطموح إلى خطوات تنفيذية ناجحة.
وفي ظل مثل هذه المبادرات النوعية، تواصل الشارقة ترسيخ مكانتها كمحور إقليمي وعالمي في صناعة الكتاب، وتقدّم نموذجاً عملياً لما يمكن أن تفعله السياسات الثقافية الرشيدة في بناء صناعة نشر مستدامة قادرة على مواكبة التحوّلات الرقمية، والانفتاح على الأسواق العالمية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الهوية الثقافية العربية كقيمة مضافة في المشهد الثقافي الدولي.