بقلم بدور القاسمي
ثمة سبب وجيه يدفعني لاستلهام معاني قصة وليام كامكوامبا، الصبي الذي حوّل حياته وحياة مجتمعه في مالاوي بفضوله العلمي وشغفه. ما علّمني إياه وليام وملايين آخرين، هو أن نقص الموارد وضيق الظروف لا يعنيان بالضرورة الوقوع فريسة للفشل الحتمي. لقد علّمنا هذا الصبي المبدع درسًا قيّماً، ذلك أنه في خضم المواقف الصعبة، هنالك دائمًا فرصٌ كامنةٌ لأولئك الذين يعرفون أين يبحثون. وقد تم تجسيد قصة ويليام بأروع صورة في فيلم بعنوان “الصبي الذي سخَر الرياح” (The Boy Who Harnessed the Wind)، وهي قصة ملهمة تبرز لنا إصرار ويليام على بناء توربينات هوائية لتشغيل أدوات بسيطة ليجلب بها المياه إلى مجتمعه، الذي كان على وشك الدمار بسبب الجفاف. لقد أنقذ وليام مجتمعه من الهلاك بقليل من التعليم والمعرفة وبكثير من الخيال والإبداع.
عندما أتأمل الوضع الراهن لعالم النشر وسط هذه الأزمة العالمية غير المسبوقة، لا يسعني إلا أن استحضر قصة ويليام كامكوامبا، الذي كانت قريته بأكملها على وشك أن تُمحى بسبب الجفاف الذي كانت تعانيه. ولحسن الحظ، فإن عالم النشر ليس على وشك الانقراض التام مثل قرية ويليام، لكننا نمر بأزمة خطيرة في صناعتنا ويواجه العديد من الناشرين تهديدًا وجوديًا. بعد أكثر من عقد من الزمان من العمل النشط في قطاع النشر العالمي، ويحزنني اليوم أن أرى العديد من الناشرين يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة منذ أن توقفت سلسلة التوريد العالمية بشكل كامل تقريبًا في مارس من هذا العام.
من الطبيعي جدًا أن نفقد الأمل في مواقف صعبة كهذه – فلا شك في أن ما تلقيه الظروف من أعباء ثقيلة على كواهلنا يجعل الكثير منا يفقد القدرة على رؤية الصورة الأكبر، لكن التاريخ يخبرنا دائمًا أن الكثير من الإنجازات العظيمة وُلدت من التحديات الصعبة كالتي نمر بها. صحيح أن دور النشر العالمية تواجه أوضاعًا ضبابية في الوقت الراهن، لكنني أعتقد أن الشيء الوحيد الذي يمكننا الاعتماد عليه بيقين كبير هو أن هذه الأزمة ستؤدي إلى فرص حقيقية للنمو. ولهذا أعتقد أن صناعة النشر ستتعافى بقوة من هذه الأزمة، رغم الخسائر التي مرت بها بعض دور النشر خلال الربع الأول من عام 2020.
أدرك جيّدًا أن لا أحدًا يستطيع أن يتنبأ بدرجة عالية من اليقين كيف ستبدو الأسواق بعد انتهاء هذه الأزمة وعودة الحياة إلى طبيعتها – فنحن لا نعرف حتى كيف سيبدو الوضع السائد في غضون بضعة أشهر. لكن الخبر السار هو أن القراءة تعود بالفعل كجزء من الروتين اليومي لملايين الناس حول العالم، وهو ما ساعد مبيعات الكتب على الصمود إلى حد معقول حتى الآن، وهو في رأيي أمرٌ يتطلب من الناشرين العمل على تشجيع هذا الاتجاه والسعي إلى مضاعفة أو تكثيف الجهود لزيادة عدد القراء في جميع أسواقنا المتأثرة بالأزمة، باعتبارها إحدى الطرق التي تضمن لنا تحقيق زيادة في الطلب على الكتب.
لكن أعداد القراء الكبيرة لا تكفي وحدها لتمكين الناشرين من مواصلة أعمالهم وتنميتها في مرحلة ما بعد الأزمة، والحقيقة أننا في أمس الحاجة للابتكار والتحوّل السريع وإنشاء سلاسل قيمة مرنة جديدة. وأعتقد أن أحد الجوانب التي يحتاج الناشرون إلى التركيز عليها هو التفاعل المباشر مع القراء والمستهلكين، ذلك أن تبني نهج التركيز المباشر على المستهلك من شأنه أن يساعد الناشرين على التواصل مباشرةً مع القراء ويخلق لنا فرصًا لتحويل أعمالنا إلى علامات تجارية كبيرة. وهذا لن يتحقق فقط عبر التوسع في إنتاج الكتب، والتطبيقات، والكتب المسموعة، والمواقع ونوادي الكتب على الإنترنت، ولكن أيضًا عبر تجربة كاملة تعزز مشاعر الانتماء للمجتمع، وتُنشئ علاقات أكثر متانة مع القارئ، وهو ما يتطلب منا العمل بجد على تعزيز العلاقة مع القارئ من خلال منتجات معرفية متعددة (وليس فقط الكتب) تكفل لنا الاحتفاظ بشريحة واسعة من جمهور القراء في مجتمعاتنا.
إن تمكين الناشرين من اغتنام هذه الفرص الذهبية، يُحتم على القائمين على الصناعة الإقرار بحقيقة أن مستقبل النشر بات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتقدم المستمر في التكنولوجيا ومنصات توصيل المحتوى الرقمي، وهو ما يُلقي على عاتقنا جميعًا مسؤولية خلق ثقافة داخلية في مؤسساتنا تتسم بسرعة التكيّف وقابلية التطور مع هذا الواقع الرقمي الجديد. ولهذا أعتقد أن الوقت قد حان لتجاوز النقاش الكلاسيكي الدائر حول ما إذا كان عصر الكتاب المطبوع قد ولى أم لا. واتمنى أن تبقى الطباعة في المستقبل وتستمر، ولكن بغض النظر عما إذا كان ذلك سيحدث من عدمه، فإنني ما زلت أؤمن وبقوة في أن إنشاء حلول رقمية متطورة هو ما ينبغي أن نعول عليه في مساعينا لجلب فرص واعدة لجميع الناشرين.
إن ما نشهده من تطور مذهل على صعيد التكنولوجيا وأدوات التسويق الرقمي يضع بين أيدينا فرصة ثمينة لفهم قرائنا، أو جمهورنا، بدقة متناهية، وهو أمرٌ لم يكن متاحًا لنا قبل 10 أو 15 عامًا. وهذا الفهم يتيح لنا أولاً تقسيم شرائح جمهورنا بصورة أكثر دقة، وثانياً يساعدنا في تخصيص موضوعات المحتوى بحسب ميول القراء، واختيار الوسيط المناسب لتوصيلها إليهم. ويجب علينا اليوم أن نبادر إلى استغلال هذا الفضاء الرقمي وأدواته المتطورة في تعزيز نمونا، وأعتقد أن القراء سيكافئون هؤلاء الناشرين الذين يمكنهم من تنظيم المحتوى وتخصيصه وفقًا لاحتياجاتهم ورغباتهم الخاص
أن “التعلّم عن بُعد” يوفر هو الآخر للناشرين فرصًا غير مسبوقة. وقد رأينا جميعًا كيف فرضت الأزمة الحالية على مئات الملايين من الطلاب التحوّل بين عشية وضحاها إلى الدراسة عبر الإنترنت من منازلهم في جميع أنحاء العالم. وثمة دلائل كثيرة على أن التعلّم عن بُعد سيتواصل، بطريقة أو بأخرى، بعد زوال سحابة هذه الجائحة عن العالم. وما من شك في أن هذا الاتجاه الجديد في التعليم يفتح الباب أمام نشر الابتكار في الوقت الذي يتدافع فيه المعلمون والمدارس والحكومات لتأمين محتوى ملائم لدعم التعليم عبر الإنترنت وتعزيز العملية التعليمية.
وأود هنا أن ألفت الانتباه إلى حقيقة أن ردود الفعل الأولية القادمة من الآباء والأمهات ممن لديهم أبناءً يدرسون حاليًا عن بُعد هي أن أبنائهم بشكل عام، لا يشعرون بأنهم قادرون على التفاعل مع منصات التعلّم عبر الإنترنت بالقدر الذي كانوا عليه في المدراس. وهنا يأتي دور الناشرين. فمع التركيز الصحيح والرؤية المستنيرة، يمكن للعديد من الناشرين الآن تسخير أعمالهم وأفكارهم للتركيز على إنشاء مواد تعليمية مبتكرة عبر الإنترنت.
ندرك جيّدًا أنه ليس بمقدور جميع الناشرين العمل على رقمنة إصداراتهم وعلى استغلال البنية التحتية التقنية الموجودة حاليًا بأنفسهم. لكن إذا كنا قد تعلّمنا أي شيء من هذه الأزمة، فهو أن تكاتفنا معًا يمثل أهمية بالغة في التغلّب على التحديات التي تعترض سبيلنا جميعًا. ولا أرى أفضل من هذه الفرصة لإعادة النظر في مفهوم الشراكات بمنظور جديد. فبغض النظر عن حجم مؤسسات النشر المختلفة، سنحتاج إلى استثمارات استراتيجية وتعاون إبداعي لتنويع أسواقنا ومؤلفينا، بما في ذلك المؤلفين والموردين والرسامين والقراء. إن الظرف الراهن يحتم علينا النظر إلى ما هو أبعد من أسواقنا وقراءنا “التقليديين” (ونطاقات العمل الخالية من التحديات)، وذلك باعتبار أن هذا التطلّع هو الوسيلة المؤكدة للنهوض بالمبيعات. وأعتقد أن هذا هو الوقت الأنسب للقيام بذلك، لا سيما وأن جميع الناشرين لديهم اليوم ما يكفي من الدوافع القادرة على تحفيزهم نحو العمل والتفكير المبتكر من أجل البقاء والازدهار. وأنا على يقين بأننا سنشهد بحلول نهاية هذه الأزمة تحولًا في خريطة شراكة النشر العالمية.
دعونا نتفق أن التفكير بصورة مبتكرة ومرنة هو ما يضمن ازدهار الناشرين أثناء جائحة فيروس كورونا المستجد وبعدها. ومع ذلك، لا يمكن لأي منا القيام بذلك بمفرده، بل يحتاج الناشرون إلى دعم حكومي يُمكنهم من الحفاظ على وجودهم في وسط هذه الأزمة، والخبر السار هو أن العديد من الحكومات تخطط لتقديم هذا الدعم الحيوي، وهي فرصة أخرى يجدر بنا استغلالها على الوجه الأمثل. ورغم أن هذا قد لا ينطبق على كل بلد، إلا أن العديد من الحكومات حول العالم تعمل على تخصيص حزم تحفيز مالي للمكتبات العامة والمؤلفين والناشرين. ومن شأن هذا الدعم المالي أن يساعد العديد من الناشرين على الصمود في وجه العاصفة ومواصلة أعمالهم. وأعتقد أيضًا أن الوقت قد حان لإشراك الحكومات لمناقشة إمكانية إدخال تغييرات على بعض السياسات والرسوم المفروضة على صناعة النشر، التي تحتاج إلى سياسات ولوائح عامة أكثر مرونة خلال هذه الفترة الانتقالية وإلى أن تصل إلى بر الأمان، ونحتاج أيضًا إلى الضغط على الحكومات كي تعيد النظر في هيكلة رسومها وصولًا إلى تخفيف العبء عن كاهل الناشرين.
وفي هذا المقام أود أن أتوجه بخالص التهنئة إلى مجتمع النشر في المملكة المتحدة على التشريعات الجديدة التي قضت الشهر الماضي بإلغاء ضريبة القيمة المضافة على الكتب الإلكترونية. ومما لا شك فيه أن هذا التشريع سيخفض التكاليف ويعزز مبيعات الكتب الإلكترونية، واتمنى أن تحذو الحكومات الأخرى حذو المملكة المتحدة في هذه البادرة الطيبة، التي تعكس وعي الحكومات ودورها الرائد في تنمية الثقافة والصناعات الإبداعية، وإنه لمن واجبنا أن نذكرها بأهمية دورها في دعم صناعة النشر.
وكما كان الحال مع ويليام كامكوامبا، يواجه الناشرون تحديات تضعهم على المحك وتعصف بوجودهم. ولقد حان الوقت لكي نستيقظ وندرك حجم ما يهددنا من مخاطر، لا سيما وأننا لا نملك الوقت الكافي للتحليل والاستغراق في التفكير، أو اعتماد “نهج الانتظار والترقب”. والشيء المهم الآن هو مواجهة الواقع، والإيمان بأنفسنا، واغتنام الفرص التي تتيحها هذه الأزمة. في ظل هذا المشهد التنافسي الآخذ في التغيير، تأتي الحاجة الملحة لتغيير الطريقة التي نفكر بها في مستقبل صناعتنا. فلنتعاون ونعمل معًا لضمان قدرة قطاع النشر على التكيّف مع عالمنا الجديد.