في لحظة خالدة من ذاكرة التراث الإنساني، أشرقت شمس الشارقة على خريطة العالم مجدداً، وهذه المرة من بوابة التاريخ العميق، بعد أن اعتمدت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو في دورتها الـ47 التي اختتمت مؤخراً بباريس، إدراج “المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية” ضمن قائمة التراث العالمي. ولم يكن هذا الإنجاز مجرد اعتراف بموقع أثري، بل كان بمثابة شهادة ميلاد جديدة للحكاية الأولى للإنسان، حين بدأ خطواته الأولى على رمال الخليج العربي قبل أكثر من 200 ألف عام.
وما يُميّز “الفاية” ليس فقط قِدمه، بل فرادته كأول موقع صحراوي يوثق استيطان الإنسان في حقبة العصر الحجري على هذا النحو المتصل والمحفوظ. ففي قلب صحراء الشارقة، عثر علماء الآثار على 18 طبقة جيولوجية تسرد تطور الإنسان عبر العصور، لتصبح “الفاية” أشبه برواية منقوشة بالصخر، سطورها من أدوات حجرية وشواهد دفينة، لكنها تنطق بلغة الحضارات. ويجسّد الموقع قدرة الإنسان على التكيّف والاستيطان في الصحاري، إذ شكّلت – رغم ما تتميّز به من قسوة وظروف بيئية بالغة الصعوبة – محطة محورية في تاريخ تطوّر الإنسان، وهو ما منح إدراج “الفاية” على قائمة التراث العالمي بُعداً علمياً وإنسانياً فريداً.
ويتوّج هذا الاعتراف الدولي الجهود التي بذلتها دولة الإمارات وإمارة الشارقة، بقيادة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي آمن بأن الهوية الثقافية تبدأ من جذورها. وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً، تم إعداد ملف ترشيح “الفاية” برؤية علمية وشراكات دولية رفيعة، قادتها الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، السفيرة الرسمية للملف، والتي أكدت أن “إدراج الفاية يرسّخ إسهام الشارقة في كونها مهداً للتاريخ البشري المبكر، ويبرز الدور المحوري لشبه الجزيرة العربية في رحلة الإنسان للخروج من إفريقيا. وتُعد الأدوات الحجرية التي عُثر عليها في الفاية، والتي يتجاوز عمرها 200 ألف عام، دليلاً ناطقاً على عبقرية أسلافنا وجذور التقاليد الثقافية العميقة في منطقتنا”.
وأكدت الإمارات والشارقة التزامهما بخطة إدارة وصون شاملة للموقع تمتد من عام 2024 حتى 2030، وتركّز على حماية القيمة العالمية الاستثنائية للموقع، وتعزيز البحث والتعليم والسياحة المستدامة، في نموذج متكامل يجمع بين صون التراث والاستكشاف العلمي ومشاركة المجتمع. ووضعت الإمارات وإمارة الشارقة خطة متكاملة لإدارة وصون موقع الفاية للفترة من 2024 حتى 2030، بما يتماشى مع المعايير المعتمدة من قبل اليونيسكو للحفاظ على “القيمة العالمية الاستثنائية” للموقع. وتركّز الخطة على دعم البحث العلمي، وتعزيز التعليم، وتنمية السياحة المستدامة، في نموذج يُجسد الدمج الفعّال بين صون التراث، والاستكشاف العلمي، والمشاركة المجتمعية.
ومع إدراج “الفاية” في قائمة اليونسكو، يرتفع عدد مواقع التراث العالمي إلى 1226 موقعاً موزعة على 168 دولة، منها 96 موقعاً في المنطقة العربية. لكن ما يميّز “الفاية” عن سواه، هو أنه لا يحكي فقط عن ماضٍ بعيد، بل عن أصل الحكاية.. عن الإنسان حين بدأ يكتب فصله الأول على الرمال. ويُعد مفهوم التراث العالمي فريداً من نوعه بفضل شموليته وتوجهه الإنساني. فالمواقع المدرجة على قائمة التراث العالمي لا تنتمي إلى الدول فقط، بل هي ملك لجميع شعوب العالم، بغض النظر عن موقعها الجغرافي.