في قلب الخليج العربي، تواصل الشارقة كتابة فصلها الخاص من قصة الثقافة العربية. مدينة لم تسعَ إلى الأضواء الصاخبة بقدر ما سعت إلى بناء هوية متينة تُترجمها الكتب، والمكتبات، والمعارض، والمهرجانات. هنا، لا تُستقبل الكلمة كزائر عابر، بل كضيف دائم، يجد بيئة ترعاه وتشجّعه وتمنحه فضاءً رحباً ليزدهر. لذلك، أصبحت الإمارة محطة رئيسية للمبدعين العرب، الذين يبحثون عن مكان لا يمنحهم فقط المنبر، بل يمدّ لهم جسراً نحو العالم.
وما يميّز الشارقة هو أنها لم تكتفِ بتشييد صروح ثقافية، بل أسست منظومة متكاملة تقف خلفها رؤية واضحة. هيئة الشارقة للكتاب ومعرضها الدولي الذي يُعد من الأكبر عالمياً، ومدينة الشارقة للنشر التي تعد أول منطقة حرة متخصصة في صناعة الكتاب، وبيت الحكمة الذي يجمع بين المكتبة الحديثة والمركز الثقافي، كلها شواهد حيّة على تخطيط استراتيجي يرى في الثقافة رافعة تنموية بقدر ما هي هوية حضارية. هذه المؤسسات ليست مجرد مبانٍ، بل محطات في رحلة طويلة تحوّل الشغف بالكتاب إلى صناعة متكاملة.
وإلى جانب البنية المؤسسية، تحافظ الشارقة على صلتها العميقة بالتراث والهوية. فهي عضو في شبكة المدن الإبداعية لليونسكو في مجال الحرف والفنون الشعبية، وتستثمر في إعادة إحياء الذاكرة العربية والإسلامية من خلال دعم المخطوطات والمشاريع التراثية. لكن هذا الحضور لا يكتفي بالماضي، بل يتجدّد عبر فعاليات مثل بينالي الشارقة ومهرجانات الأدب والشعر التي تُعيد تعريف العلاقة بين المعاصرة والجذور. هكذا، يشعر المبدع أن تجربته لا تُبنى في فراغ، بل على أرضية صلبة تمتد جذورها في الذاكرة الجمعية.
وما يجعل الشارقة أكثر جاذبية هو أنها لا تتعامل مع الثقافة كعرض موسمي أو مبادرة عابرة، بل كمشروع مستدام. فهي تتيح للناشرين فرصاً متكافئة، من الكبار إلى المستقلين، وتفتح أبوابها أمام المبادرات الشبابية، وتستثمر في الترجمة والتبادل الثقافي. وفي الوقت نفسه، تستفيد من موقعها الجغرافي كحلقة وصل بين المشرق والمغرب، ما يجعلها مركز توزيع طبيعياً للكتاب العربي، وهذا المزيج منحها مكانة استثنائية في سوق النشر الإقليمي.
اليوم، وبعد عقود من الاستثمار المتواصل، باتت الشارقة تحمل صورتها الخاصة: مدينة للكتاب تحتفي براوده وتكرم صانعيه. فمن مبدع يكتب روايته الأولى، أو ناشر يسعى لتوسيع نطاق توزيعه، إلى شاعر يبحث عن جمهور يتذوّق نصوصه.. جميعهم يجدون في الشارقة مكاناً يفتح الأفق، ويمدّ الجسور، ويمنح الحلم شرعية التحقق. لهذا، ليس غريباً أن تظل الوجهة الأولى عربياً للصناعات الثقافية والإبداعية، حيث تتنفس الحروف وتزهر الأفكار، وتصبح الثقافة أسلوب حياة لا مجرد شعار.



