يعتقد الكثير من المتابعين للشأن الثقافي أن هذا النوع من الرقابة بدأ مع الدولة الحديثة التي تشكلت جذورها في القارة الأوروبية، إلا أن المعاين للرقابة يجد أن لها تاريخاً طويلاً يعود إلى ما قبل عصر التدوين في الثقافة العربية، أي قبل القرن الثاني الهجري، فالمرويات الشفاهية والخطاب المحكي كان يواجه رقابة قاسية تصل إلى حد قطع اللسان والتعذيب الجسدي.
يكتب ذلك التصور الدكتور فؤاد شاهين في تقديمه لترجمة كتاب “تاريخ الرقابة على المطبوعات”، إذ يقول: “لقد بدأت الرقابة بصورة حقيقة مع ظهور الطباعة، وإن كانت موجودة قبل ذلك مع المخطوطات، وكانت بدايتها دينية، تقودها المؤسسات الدينية والكنيسة، وخاصة جامعة اللاهوت في السوربون حيث فرضت رقابة مشددة على المنشورات البروتستانتية، وكانت عقوبات خرق هذه الرقابة تصل إلى حد حرق بتهمة الزندقة”.
الرقابة في التاريخ العربي
مقابل هذا التاريخ الحديث، تروي مدونة التراث العربي صوراً سابقة لهذا التاريخ تتجاوزها بمئات السنوات، حيث تقدم حكاية شهيرة حول جذور الرقابة عربياً؛ هي قصة عبد يغوث الحارثي الذي كان رأس قومه، “فما كان من الرقابة إلا أن ربطت لسانه بنسعة نعل، أي بخيط من الخيوط التي تحاك بها النعال، وهم إذ ربطوا لسانه فإنهم يسلمون من تحرك هذا اللسان بالأشعار، ولو تحركت الأشعار لقالت، وفضحت وستسري بها الروايات، وقصة هذا الحادثة مروية بتفاصيلها في قصيدة الحارثي الشهيرة “ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا”، وهي من عيون قصائد العرب وإحدى مختارات المفضل الضبي في كتابه “المفضليات”، ومنها بيت القصيد الذي يقول فيه: “أقول وقد شدوا لساني بنسعة/ أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا”.
وتسرد سيرة الشاعر طرفة بن العبد حكاية أكثر قسوة لجذور الرقابة في التاريخ العربي، إذ دفع طرفة ثمناً باهظاً لقاء طول لسانه، وقد حذره خاله حينما رأى له لساناً مشاغباً وقال له كلمته الشهيرة: “ويل لهذا من هذا”، مشيراً إلى رأسه ولسانه، وهذا ما حدث فعلاً، حيث انتهى طرفة مقطوع اللسان والرأس من حاكم زمانه.
يكشف هذا التاريخ، ومجمل ما يوفره الإعلام الحديث من حكايات المنع والحجب في العصر الراهن، خطورة الرقابة وحجم عقبتها أمام طرح الأفكار ونشرها، الأمر الذي يفرض جملة من التساؤلات حول حقيقتها، وأشكالها، وآثارها، فلماذا نكره الرقابة؟ وهل هناك رقابة إيجابية وأخرى سلبية؟ وهل تخدم الرقابة دور النشر؟ وما الذي يمكن للرقيب فعله إزاء الكتب الإلكترونية؟ ما علاقة التشريعات القانونية بالرقابة؟
الحرية في مواجهة الرقابة
وصل الفكر الإنساني الحديث في طرحه لمفهوم الرقابة إلى أنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بتطور الحريات، وليس فقط على صعيد النظام السياسي، أو حجم السلطة الدينية، أو القبضة المجتمعية، أو غيرها من المحددات، فوعي الإنسان المعاصر بضرورة الحرية شكل على الطرف المقابل تطوراً آخر في أساليب الرقابة وتفعيل دورها، فكتب روبرت استيفال مستنداً إلى نظرية النماذج: “الرقابة هي فعل قطع الاتصال” وعرفها جان جاك برفير بأنها: “الحجة التي تسمح بإنكار الأمر لصالح طمس الكلمة”، وقال جاك بروشييه: “إن الرقابة تشبه الشيطان، تبرهن على وجودها وهي تحاول جعلنا نعتقد أنها لا غير موجودة”.
تشير هذه الرؤى والأطروحات إلى آلاف الكتب التي حظر نشرها وجُرّم أصحابها، فصارت مادة غنية لقراءة تاريخ الرقابة في العالم، ففي الكتاب الصادر بعنوان “تاريخ الرقابة على الأدب العالمي”، يقدم ثلاثة مؤلفين أمريكيين الكتب الـ120 الأكثر شهرة من بين الكتب المحظورة، والتي أحرقت في إطار مبررات مختلفة، إذ يعرض المؤلفون الكتب المحظورة في أربع فئات: سياسية، ودينية، وجنسية، واجتماعية. وتتضمن كل فئة 30 كتاباً تعرض في شكل خلاصة يعقبها تاريخ موجز عن الحظر أو التقييد أو فرض الرقابة عليها.
ويقدم الكاتب الفرنسي روبرت نيتر تاريخاً تفصيلياً لمفهوم الرقابة في القارة الأوروبية في كاتبه “تاريخ الرقابة على المطبوعات”، إذ يكشف التحولات التي جرت على أنماط هذا المفهوم السلطوي منذ ما قبل اكتشاف الطباعة حتى عصر الثورة الفرنسية، كاشفاً النقاب عن أنواع الرقابة ومشوار تطورها للحد الذي تجاوزت فيه السلطة الخارجية وصارت رقابة ذاتية أكثر خطراً على الإبداع من المؤسسة الخارجية.
أشهر الأعمال الممنوعة
مقابل هذا المشوار البحثي الطويل لا تتوقف التقارير والبحوث الإعلامية المعاصرة عن توثيق أبرز المؤلفات العالمية والعربية التي لاقت نصيبها من سلطة الرقيب، فتتوقف في مجملها عند مؤلفات شهيرة مثل رواية “أولاد حارتنا” للكاتب نجيب محفوظ التي نشرها في البداية مسلسلة في صحيفة “الأهرام” عام 1959، ليهاجمها شيوخ الأزهر آنذاك وطالبوا بوقف نشرها، إضافة إلى رواية “وليمة لأعشاب البحر” للأديب السوري حيدر حيدر التي صدرت عام 1983، وتدور أحداثها حول مناضل شيوعي عراقي هرب إلى الجزائر، غير أنه يلتقي مناضلة قديمة تعيش عصر انهيار الثورة، والخراب الذي لحق بالمناضلين هناك، بعد سبعة عشر عاماً. ومُنعت الرواية في مصر ودول عربية أخرى، بعد أن تسببت في ردود فعل غاضبة من بعد إعادة طبعها في مصر عام 2000.
تفتح حكاية هذا النوع من المؤلفات الممنوعة الباب على منافع الرقابة في تسويق الكتب المحظورة، فتاريخ الكتب المحجوبة يشهد زيادة في طلبها تجعل منها كتباً ذات شهرة واسعة، إذ تتهافت دور النشر على طباعة هذه الكتب سراً، وتتسابق التقارير الإعلامية في عرض قضية الكتّاب وقصة مؤلفاتهم، للحد الذي بات الكتاب المحظور فرصة، وتقنية لتسويق المنتج الإبداعي، وكأن المنع أصبح درباً مضموناً لتحقيق الشهرة وزيادة مبيعات الكتاب وتحقيق بصمة واضحة في تاريخ الثقافة الإنسانية.
يتأكد ذلك بالوقوف عند كتّاب لم يتعرف عليهم القارئ العربي إلا بعد أن لاقت كتبهم ما لاقته من الرقابة والمنع، مثل رواية الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي، الذي أصدر روايته ذائعة الصيت تحت عنوان “آيات شيطانية” صدرت في لندن عام 1988، وبعد مرور تسعة أيام على إصدارها، منعت الهند الكاتب من دخول بلادها وتلقت دار النشر التي طبعت الكتاب الآلاف من رسائل التهديد والاتصالات الهاتفية المطالبة بسحب الكتاب من دور بيع الكتب، ومُنع الكتاب في عدد كبير من الدول العربية والإسلامية وفي بعض الدول الآسيوية والأفريقية. وخرجت مظاهرات تنديد بالكتاب في عدد كبير من عواصم العالم، بالإضافة إلى حرق أعداد كبيرة من الكتاب في برادفورد بالمملكة المتحدة، وصدرت فتوى من الخميني بإباحة دم سلمان رشدي.
الأمر ذاته جرى مع رواية “شيفرة دافينشي” للكاتب دان براون، فهي رواية بوليسية نشرت عام 2003، وحققت مبيعات كبيرة تصل إلى 70 مليون نسخة، وترجمت إلى 50 لغة، وصنفت على رأس قائمة الروايات الأكثر مبيعًا، وفقًا لقائمة صحيفة “نيويورك تايمز”، وتم منع الرواية من دخول الفاتيكان، ولبنان، والأردن، ومصر، وعدة دول أوروبية عام 2003، ولكنها ظهرت بعد ذلك في هذه الدول، بعد أن ثبت أن المنع لم يكن يستند إلى أسباب منطقية.
الرقابة تتصدى للقوانين
تعيد هذا المؤلفات وغيرها الأسئلة عن التشريعات والقوانين الدولية المعنية في تفعيل الرقابة وإحكام قبضتها، والجهود الساعية لرفع سقف الحريات في العالم، ففي عام 2004 صدر تقرير التنمية الإنسانية العربية بعنوان “نحو الحرية في العالم العربي” وكان يناقش نظم الحكم، وأشكال استغلال السلطة، فضلاً عن الأبعاد القانونية والمؤسساتية والدينية للإصلاح السياسي. لكن التقرير لاقى صعوبات تحول دون نشره من قبل الحكومة الأمريكية قبل الحكومات العربية لانتقاده اللاذع لحرب العراق، لكن التقرير أبصر النور أخيراً بدون تعديل.
وتشهد قوانين الطباع والنشر في العالم العربي على مواد قانونية تنظم إصدار المؤلفات وتحدد مستوى الحريات فيها، فتضمن مجمل قوانين المطبوعات والنشر في العالم العربي مواد من نوع “عند إصدار أي مطبوع يجب إيداع عشر نسخ منه في المحافظة أو المديرية التي يقع الإصدار في دائرتها. ويعطى إيصال عن هذا الإيداع”، و”يجوز – محافظة على النظام العام – أن تمنع مطبوعات صادرة في الخارج من الدخول والتداول في الدولة ويكون هذا المنع بقرار خاص من مجلس الوزراء. ويترتب على ذلك منع إعادة طبع هذه المطبوعات ونشرها وتداولها في داخل البلاد”، و”يجوز لمجلس الوزراء أن يمنع أيضًا من التداول في مصر المطبوعات المثيرة للشهوات وكذلك المطبوعات التي تتعرض للأديان تعرضًا من شأنه تكدير السلم العام”.
اليوم ومع تنامي حركة النشر الإلكتروني تواجه أنظمة الرقابة التقليدية صراعاً واضحاً مع الكتب الإلكترونية، فالفضاء الإلكتروني رفع مستوى الحريات عربياً وعالمياً، إلا أنه مع تنامي مستوى الرقابة التقنية والتكنولوجية بات يواجه أنماطاً جديدة من الرقاب تتجلّى في منع المواقع الإلكترونية عن بعض البلدان.