تتأكد هذه الحالة الراهنة للكتاب في تقارير مختلفة للتنمية الإنسانية العربية، ففي تقريرها للعام 2003 كانت أزمة الكتاب العربية تأخذ طريقها لتتنامى بصورة واضحة، فذكر التقرير: “إن تراجع الإصدارات الحديثة من الكتب، وتناقص الكميات المطبوعة من كل الإصدارات يصل في أحيان كثيرة لدى عدد غير قليل من دور النشر إلى بضع مئات، وهذا ما يجعل صناعة الكتاب غير مجدية اقتصادياً، أو محدودة المردود، للحد الذي دفع بعض دور النشر إلى تجنب المشاريع الكبرى، أو الكتب العلمية والثقافية الجادة”.
يفرض هذا الواقع تساؤلات عديدة على صُنّاع النشر في العالم العربي، خاصة أن تلك الأزمات لا تواجه البلدان العربية وحسب، وإنما تظهر في مختلف بلدان العالم، إلا أن الكثير من أسواق الكتاب نجحت في تجاوزها، ولا زالت الكثير من المؤلفات في أمريكا والقارة الأوروبية تباع بملايين النسخ وتحقق إيرادات توازي إيرادات مشاريع ربحية كبرى في بلدان العالم الثالث، فما هي الآليات التي تلجأ إليها الأسواق العالمية لترويج الكتاب؟ وما هي حكاية الكتب الأكثر مبيعاً؟ وهل استفاد محترفو التسويق من التكنولوجيا الحديثة ووظفوا قدراتها لتسويق الكتاب الورقي؟ وهل يراعي الناشرون المحترفون آراء القراء في طباعة الكتب والإصدارات الجديدة؟
تنكشف الإجابة على مجمل تلك الأسئلة بالرجوع إلى التقارير والأرقام التي تحقق المقارنة بين سوق الكتاب العربي وسوق الكتاب الغربي، فوفق إحصاءات صادرة عن اتحاد الناشرين العرب تصل عدد النسخ المطبوعة من الكتاب العربي إلى ما بين ألف إلى ألفي كتاب، في الوقت الذي تحقق أضعاف ذلك في الأسواق الأمريكية والأوروبية.
ليس ذلك وحده ما يشير إلى رجوع حال التسويق والبيع في الكتاب العربي، فالكثير من دور النشر – وفق تقارير النشر العربية – تطبع خمسمائة نسخة من الكتاب، وتعتمد أساليب جديدة في الطباعة لا تعد طباعة بالمعنى التقني وإنما تصويراً سريعاً، الأمر الذي يجعل أمكانية الطباعة بأعداد قليلة متاحاً على عكس الطابعات التقليدية التي تحدد ألف نسخة في الدورة الواحدة للطباعة.
“الأكثر مبيعاً”.. خدعة ناجحة!
في الوقت الذي يلجأ الناشر العربي إلى هذه التقنيات تماشياً مع واقع القراءة في العالم العربي، يطرح الناشر الأوروبي حلولاً فعالة لتحقيق مستويات أعلى من نشر الكتاب، ويحقق إيرادات مدروسة، فيصنع واحدة من المفاهيم الرائجة في سوق النشر العالمي اليوم والمعروفة بـ”الكتب الأكثر مبيعاً”، وهي حيلة تقنية يوظفها الناشر الغربي لتحقيق الاقبال على الكتاب وتعميم حضوره في الأسواق العالمية، إضافة إلى أنه يجري دراسات على معدلات التوزيع ومنافذه، فيقدر حجم النسخ الصادرة من كل مؤلف لتصل في كثير من الأحيان إلى عشرة آلاف نسخة من كل طبعة.
ليس ذلك وحسب، فالكاتب والناشر فتحي البس، مدير دار الشروق للنشر والتوزيع بالأردن، في بحث له حول واقع النشر الغربي والعربي، يشير إلى أن الناشر الأوربي يلجأ إلى آليات إعادة التدوير الجارية في سوق توفير استخدام الورق، فالمؤلفات التي تلاقي كساداً واضحاً وتحقق نسبة عالية من الطبعات الراجعة تلاقي طريقاً أخرى للنفاذ تسترد جانباً من تكاليف إصدارها، عبر مصانع التدوير التي تعيد إنتاج الورق.
يتوقف الباحث والناقد عبد الله الغذامي في كتابه “اليد واللسان” الصادر عن المركز الثقافي العربي، عند مفهوم “الكتاب الأكثر مبيعاً”، ويعرض الخطط التي يتبعها الناشر لتفعيل هذه العبارة الترويجية، فيتوقف عند ثلاثة نماذج من المؤلفات لاقت رواجاً كبيراً عربياً، وعالمياً، هي؛ كتاب “لا تحزن” لعائض القرني، وكتاب “تصرفي كامرأة، وفكري كرجل” لستيف هارفي، وكتاب “الاستجابة والاسترخاء” لمؤلفه هربرت بنسون.
يخلص الغذامي في كتابه هذا إلى أن تلك الكتب لاقت ما لاقته من رواج بالاستناد إلى معايير ومحددات عديدة، فيقول: “لن نتعرف على حقيقة هذه الكتب إلا عبر التعرف على ظروف الاستجابة، فالذي يجعلها أكثر مبيعاً هو ملامستها لدافع ذاتي عند مستقبليها، وسنجد أدلة على هذه الدوافع إما عبر الاستطلاع أو عدد من ملامحها الأساسية المؤثرة في صناعة الكتاب”.
يتأكد هذا الطرح في الحكاية الشهيرة لكتاب “كل ما يعرفه الرجال عن النساء: حقيقة الأمر” لمؤلفه العالمي آلان فرانسيس، إذ طرح المؤلف كتابه في الأسواق وسرعان ما لاقى رواجاً كبيراً، فكانت نسخه تباع مغلّفة بغلاف بلاستيكي شفاف، تجعل القارئ على شغف بما سيصل إليه بعد هذا العنوان، إلا أن المفاجأة حدثت حين فتح القراء الكتاب ووجدوا صفحاته بيضاء فارغة من أوله إلى آخره!
تشير هذه الحكاية إلى تقنيات التسويق التي تراهن على دوافع القراء، وتصل إلى جوهر شغفهم، فالمتأمل في الكتب التي حملت إشارة “أكثر الكتب مبيعاً” يجد أنها تكاد تكون بلا قيمة ثقافية فكرية عميقة، وغالبها يحاكي وجدان القارئ، ومشاعره، ويحاول حل مشكلاته المعاصرة.
توظيف التكنولوجيا لتسويق الكتاب
مقابل هذه الحيل التي يلجأ إليها كبار العاملين في سوق النشر بالعالم، يظهر طرف جديد لمعادلة رواج الكتاب، ويتمثل في توظيف وسائل التكنولوجيا الحديثة في التسويق، إذ عملت دور النشر الغربية على تفعيل حضورها على الإنترنت، وفعّلت أنماط الشراء الإلكتروني، في الوقت الذي ظل الكثير من الناشرين العرب يجد في الوسائل الحديثة محل تخوف وتهديد لسوقه وتجارته.
تشير الأرقام الصادرة حول تسارع استخدام الكمبيوتر وتمدد الإنترنت في العالم، إلى واقع جديد يفتح الباب على سوق واسع يمكن استثماره في صناعة النشر العربي، إذ “يشبك 350000 شخص جديد على الشبكة العنكبوتية كل يوم، ويتم تصميم أربعة مواقع جديدة على الشبكة كل ثانية، أما عدد الكمبيوترات فهو بازدياد كبير، فإذا بيع 50000 كمبيوتر في عام 1980، فالآن يتم بيع 50000 كل يوم في العالم”.
يضع هذا الواقع المتسارع الناشر العربي والكاتب أمام فضاء واسع ينبغي العمل على استغلاله، وتفعيل إمكانياته لزيادة معدلات بيع الكتاب وانتشاره، ففي تقرير نشرته مجلة آفاق مستقبلية: “تصل مبيعات الكتب عبر متجر الكتب الإلكترونية “نيل وفرات” إلى 30 ألف كتاب سنوياً”، وهذا ما يشكل إضافة جديدة لأنماط البيع التقليدية القائمة بدور العرض، ومعارض الكتب وغيرها من منافذ التسويق”.
إلى جانب هذه الوسائل والآليات التي تسهم في ترويج الكتاب وتفعيل حضوره، لا يمكن إغفال جهود الآلة الإعلامية في الإعلان عن الكتب الصادرة حديثاً، وهذا يشكل عالماً آخر في الثقافة الأوروبية، فالكثير من الأسماء الإعلامية الكبيرة ما إن تكتب حول مؤلف جديد حتى تزداد مبيعاته في اليوم الذي يليه، وهذا يتم وفق معايير عديدة منها أهمية الكاتب، وأهمية الوسيلة الإعلامية، إضافة إلى الاتفاقيات السرية والعلاقات بين بعض الصحف ودور النشر الكبرى.