دخلت الروائية العراقية شهد الراوي، المجد من أوسع أبوابه بوصول روايتها الأولى “ساعة بغداد” عام 2018، إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، لتكون أصغر روائية تصل إلى هذه القائمة. فازت الرواية ذاتها بجائزة الكتاب الأول لمهرجان إدنبرة للكتاب في اسكتلندا عام 2018. وفي شهر نوفمبر 2020، أصدرت روايتها الثانية “فوق جسر الجمهورية” التي تدور أحداثها في العاصمة بغداد وإحدى الدول العربية المجاورة بعد غزو العراق عام 2003. وفي هذا الحوار تتحدث الراوي مع “ناشر” عن عملها الأخير، وأجواء كتابة الرواية التي ستصدر باللغة الإنجليزية قريباً.
بعد النجاح الباهر الذي حققته روايتكِ الأولى “ساعة بغداد”، كيف عملتِ على رواية “فوق جسر الجمهورية”؟ المدة التي استغرقتها الكتابة، وتدفق الأفكار،.. إلخ.
لم تمر فترة طويلة على صدور “ساعة بغداد”، حتى شرعت في الجلوس على مكتبي ورحت أكتب. هل كانت القصة موجودة في رأسي؟ لا يمكنني أن أقول: نعم باطمئنان تام، فأنا أنتمي إلى ذلك النوع من الكُتّاب المغامرين، الذي يقطعون الصحاري دون استخدام نظام تحديد المواقع أو خرائط واضحة. لديّ أحداث مترامية وربما لا يجمعها رابط واضح – على الأقل في البداية – ثم قررت أن أصنع منها عالماً ولا أقول حكاية.
قد أكون أنفقت ثلاث سنوات في الكتابة، ليست متواصلة بالطبع، فقد اضطررت للسفر كثيراً للمساهمة في مهرجانات وملتقيات أدبية مثل أدنبرة، وبرلين، وكيرالا، وأبو ظبي وغيرها. انتهيت من الرواية في خريف 2019 ولكنني أجلّت نشرها بسبب الاحتجاجات الأخيرة في العراق، وجدت خلالها فرصة لوضع بعض اللمسات على الأحداث والشخصيات حتى قررت نشرها في خريف 2020.
طرأت تغيّرات كثيرة على قطاع النشر بسبب جائحة “كورونا”.. ما التحديات التي واجهتكِ؟
أعتقد إن ظروف الوباء لم تؤثر كثيراً على طبيعة العلاقة بين القارئ والكتاب، إن لم تكن قد وطدتها نتيجة الإغلاقات وتوفر الوقت الإضافي. وشخصياً لم أجد فرقاً في ذلك، فكما لقيت روايتي الأولى إقبالاً ملفتاً، استقبل الجمهور الرواية الثانية بحماس أعلى وحققت حضوراً فاق حتى توقعاتي.
كيف خطرت لكِ فكرة “فوق جسر الجمهورية” من حيث الحبكة والشخصيات؟
روايتي لا تقوم على فكرة بحد ذاتها، هي نوع من اقتراح لعالم تتقاطع فيه عدة أفكار، وتلتقي فيه عدة تصورات متناقضة عن معنى حياتنا. تبدأ الرواية من صورة افتتاحية، من لحظة ما، يجري فيها تقديم العالم الذي نحن بصدد الدخول فيه. وفي هذه الصورة ترسم الشخصية الرئيسية، والشخصيات المرافقة والمهمة لوجودها وتطورها، ثم تنطلق الأحداث من تشابك سري وخفي وغامض بين الواقعي والمتخيّل وهما يتناوبان على دفع الأمور نحو الأمام. وهكذا أحاول كمؤلفة أن أضبط حقل الصراعات وأعمل على مراقبة مجرياتها.
لماذا اخترتِ إبقاء البلد الذي هاجر إليه بطل الرواية بلا اسم؟ هل هو الخوف من أي رد فعل سلبي أم أن هناك سبباً أدبياً وراء ذلك؟
الهجرات العراقية بعد 2003 توزعت على عدة دول في الجوار العراقي، مثل سوريا، والأردن، ولبنان، وتركيا، وغيرها، لذلك وجدت من المهم أن أترك مساحة للقارئ أن يفترض ويخمّن ثم يقرر المكان الذي يريده. وهذه واحدة من مساهماته في صنع الرواية التي تحتاج منه جهداً ومبادرة لاستكمال شروط تحققها. هذا هو السبب الرئيس، وربما الوحيد وراء ذلك.
لماذا ظّل بطل الرواية مجهولاً؟ وهناك العديد من الشخصيات ذات الأبعاد والأدوار المختلفة داخل الرواية، فهل هي جميعها من وحي الخيال أم أن بعضها موجود في حياتكِ؟
السبب في عدم ذكر اسم البطل، هو نفسه الذي حصل مع “ساعة بغداد”، حيث أردت أن أحقق فكرة “الأنا المشتركة” تلك التي تتحدث للجميع بلسان الجميع. أن تكون قريبة من ذواتهم إلى الحد الذي لم يجدوا سبباً لسؤالها: توقفي من فضلك، ما اسمك إذا سمحت؟ لأنها لم تدخل عالمهم فجأة وتخلخله تحت أقدامهم، وإنما هي موجودة بينهم، وقررت أن تقاطع الجميع وتروي الأحداث من وجهة نظرها.
أما الشخصيات، فبعضها واقعي، وحتى الأسماء هي نفسها، مثل شخصية مارگو ومديرة المدرسة والمدرسات، وبعضها خليط من عدة شخصيات، مثل سامو، فهو حاصل جمع كل أولئك الذين يعيشون على هامش حياتنا ولكننا لا ننتبه إلى وجودهم إلا عندما نحتاجهم في الظروف الصعبة، لنجدهم أول القادمين نحونا. هذا الصنف من الناس الذي لا يحب أي دور سوى أن يكون هو نفسه. وأن يكون واقعياً لدرجة يبدو فيها غريباً عنا.
الحرب والغزو والخسارة هي مواضيع متكررة في كلتا الروايتين، هل تخشين أن تظلي “عالقة” في هذه الموضوعات أم أنك ستغامرين باتجاه مختلف في روايتكِ التالية؟
حتى نخرج من أية حالة، علينا الدخول إليها أولًا. ما جرى للعراق، ومن ثم للمنطقة ليس من السهولة القفز فوقه لكتابة رواية مترفة وخالية من أثر الواقع. أتمنى أن أحصل على ذلك النوع من الاسترخاء مستقبلاً وأكتب بعيداً عن كل ذلك، لكن متى سيحصل هذا؟ لا أدري، ربما في الرواية القادمة وربما لا. ميلان كونديرا غادر براغ، وتخلّص من قسوة الواقع، لكن براغ وما تعنيه له هذه المدينة وملابساتها، بقيت تعيش في جميع رواياته تقريباً.
الموت والضياع بارزان في الرواية، فهل يرمزان إلى العراق، وإذا كان الأمر كذلك فأين الأمل الذي يحتاجه القراء العراقيون؟
زمن الرواية الخارجي يتحدث عن فترة مريرة عاشها العراق، ربما هي أصعب سنوات مررنا بها كشعب وبلد. وستكون هناك خيانة من نوع ما إذا حصل وقفزت فوق تلك الأحداث، لكنني أعزي نفسي بأني من داخل هذا الألم؛ صنعت عالماً من الجمال الأدبي وحررت بعض الابتسامات والدموع المؤجلة من مكامنها.
ما مقدار تدخلاتكِ في النسخة النهائية من روايتكِ، سواءً في التصميم والطباعة والتسويق؟
أنا شخصية مُتعِبة نسبياً في متابعة التصميم الداخلي والحرص على التفاصيل. حتى أعطيت موافقتي الأخيرة تنفس الناشر الصعداء. أما التسويق فأنا لا أتدخل به إطلاقاً، هذا واجب الناشر. أنا أكتب رواية يحبها القارئ وهذه مساهمتي التسويقية الوحيدة، أنقل أحيانًا انطباعات القراء على صفحتي في الانستغرام، ولا أدري كم يدخل هذا في باب التسويق، لأنني أقوم بذلك لغرض آخر، هو التواصل مع هؤلاء القراء.
لماذا اختيرت صورة فتاة لغلاف الرواية بدلاً من صورة جسر الجمهورية، إلى ماذا ترمز؟
الغلاف هو المرحلة الأخيرة من العمل على الرواية. وأحرص دائماً على أن يكون مميّزاً ومعبّراً وفيه قيمة فنية بحد ذاته. شاهدت مئات الأعمال الفنية، وعندما عرضت عليّ لوحة الغلاف الحالية، قلت: هذا هو غلاف روايتي. على الرغم من أن البنت لم يظهر وجهها في اللوحة، ولكنها تشبه ساردة الرواية بطريقة غريبة. تشبه فيها شيئاً لا أستطيع أن أعرفه بدقة، ولكن هذه الراوية كما أعرفها.
كتبت للفنان كرس ليون، وهو فنان نيويوركي، وقلت له: أريد لوحتك هذه غلافاً لروايتي، وبعد أن عرف الرجل بأنني مترجمة الى لغات عدة، وحاصلة على جائزة أدنبرة للرواية، كتب لي بالموافقة ووقعنا العقد. هذه لا اسميها مصادفة، كما لو أن هذا الغلاف كان في أرشيفه ينتظر أن انتهي من روايتي ويأتي ليكمل ظهورها كما أريدها.
لم اختر صورة لجسر الجمهورية، ولم أفكر بهذا إطلاقاً، لأن الجسر كعلامة عمرانية في وسط المدينة، لا يملك صورة واحدة عن نفسه. إنه يُشاهد من زوايا مختلفة، وحسب موقعك وحركتك اليومية في المدينة، إنه صورة متحركة، تماماً مثل النهر الذي يمر فوقه.
كم كان من الصعب العثور على دار نشر روايتكِ، خاصة وأن فيروس كورونا قد أصاب العديد من القطاعات بقوة؟
في الحقيقة هناك عدة دور للنشر تعرض عليّ التعاون معها. الأمر ليس بتلك الصعوبة. أما بخصوص الناشر الأجنبي، فوكيلتي الأدبية هي التي تتبنى هذا الموضوع، وتطرح الخيارات عليّ لنقرر سوية أين نمضي.
ما أهمية المدرسة في الرواية؟
المدرسة في الرواية هي جزء من مسرح الأحداث، وهي بالمناسبة مدرسة واقعية، وتعد من أشهر المدارس في بغداد، تخرجت منها عدة أجيال متعاقبة حتى يمكنك العثور في بيت واحد على الجدة والأم والحفيدة تخرجن جميعهن منها ومن نفس بنايتها التي يمتد عمرها إلى 100 عام. ومن هذه المدرسة تخرّجت النخب النسائية البغدادية ولعل أبرزهن سيدة العمارة العالمية الراحلة زها حديد. وهي مدرستي التي قضيت فيها بعض سنوات مراهقتي وفيها تشكّل وعيي وأول قراءاتي وربما أول محاولاتي الأدبية. لا يمكنني إطلاقًا أن أتذكر بغداد دون أن تنزل المدرسة من سماء ذاكرتي وسط ضباب كثيف من الذكريات وتحل مباشرة أمام عيني، ربما هي من المباني القليلة التي أمتلك علاقة خاصة مع مداخلها، وشبابيكها، وأبوابها، وأروقتها، وحديقتها، وأعشاش الطيور فوق أغصان أشجارها. هي المكان الفريد الذي لا أشعر أنني بت بعيدة عنه لأن أصابع طباشيرها عالق براحة كفي اليمنى. ثانوية العقيدة، وهذا هو اسمها، تقع مباشرة على حافة نهر دجلة، حتى كأنهما يستيقظان سوية كل فجر بغدادي محمّل بنعومة الماء وضوء الشمس وحكايات الناس الذين يعبرون جسر الجمهورية القريب من بوابة المدرسة.