كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تراجع مكانة الكتاب الورقي، على حساب شبكات المعلومات الرقمية، ووسائل الترفيه الإلكترونية، ما حدا بشريحة عريضة من محبي الكتب والكلمة المقروءة التعبير صراحةً عن مخاوفهم من أن يفقد الكتاب الورقي بريقه ومكانته في مضمار المعرفة، لا سيما مع اتساع انتشار الكتاب الإلكتروني، الذي بات يوصف بأنه المهدد الأكبر لعرش الكتاب الورقي.
ومع ازدياد الإقبال على الوسائل التكنولوجية الحديثة في عالم المعرفة، انتشرت الكثير من النقاشات بين محبي الكتاب الورقي من جهة، وأنصار الكتاب الإلكتروني من جهة أخرى حول شكل وطبيعة العلاقة بين الكتاب الورقي ونظيره الإلكتروني، وهل هي علاقة تعاون وتكامل أم علاقة تنافس وصراع؟
ولا يخلو أي نقاش من هذه النقاشات من التأكيد على قدرة الكتب الورقية على الاحتفاظ بسحرها ومكانتها وألقها، إلى جانب التشديد على أنها الوحيدة التي توفر متعة القراءة، مع امتزاج الحبر بالورق، التي يتنسم معها القارئ عبقاً وأريجاً فواحاً، يعيش من خلاله وبكل حواسه ومشاعره مع ما يقرأه بين السطور.
ويذهب البعض إلى أن سحر الكتاب الورقي وقدرته على جذب القارئ يكمن بالأساس في رائحة أوراقه المخضبة بالحبر، والتي ينبعث منها رائحة شذى فواح تعطر مخيلة وذهن القارئ، وتظل خالدة في ذاكرته ووجدانه على الدوام، يستدعيها شغف القراءة لديه كلما ابتعد عن الكتاب وازداد حنينه لتصفح أوراقه والتزود بما يحمله من كنوز ومعارف وأسرار في كل حقول ومجالات المعرفة.
ويرجع الخبراء انبعاث رائحة الكتب المعتقة إلى المواد العضوية التي تدخل في صناعتها، والتي تشمل الورق الذي يرجع أصله إلى لب الأخشاب، والحبر، والغراء، والألياف وغيرها، والتي تتفاعل مجتمعةً مع الضوء والحرارة والرطوبة، فتنتج عنها تلك الروائح المتسربةً إلى الأنف التي تتميز بحساسيتها العالية، فضلاً عن كونها تعد من أكثر الحواس تحفيزاً للذكريات، فمن خلالها تظل الرائحة المفضلة عالقة في ذاكرة الشخص إلى الأبد.
وبنظرة شاملة لمكونات الكتاب تبرز خصوصية رائحة الحبر والورق وأثرهما الكبير في التشجيع على القراءة واقتناء الكتب بصيغتها الورقية على وجه الخصوص، ولعل هذا ما دفع أنصار مدرسة الحداثة للبحث عن سبل تضمن للقارئ الاستمتاع بتنسم عبير رائحة الورق المميزة أثناء تصفح الكتب الإلكترونية، وهو ما قاد بعض الشركات المتخصصة في تصنيع العطور والشموع لإنتاج روائح تنثر أريج الكتب القديمة المعتقة، تلبية لرغبات القراء وعشاق الكتب، حيث تحاكي الروائح المنبعثة من هذه العطور والشموع أجواء قراءة كتاب ورقي حقيقي أثناء تصفح نسخة لكتاب إلكتروني.
ويصل سعر العطر الواحد من هذه العطور إلى 200 دولار أمريكي، ويتوفر منها أنواع عديدة منها عطر “قبو المكتبة”، وعطر “مكتبة أوكسفورد” المصنوع من خشب الصندل، إلى جانب عطر خاص برائحة الورق الذي خرج لتوه من المطبعة، وفي العاصمة الإماراتية أبو ظبي نجح الكاتب ورائد الأعمال الإماراتي فيصل السويدي في توفير خدمة مبتكرة قدم من خلالها لرواد المقاهي الثقافية عطوراً داخل قوارير زجاجية أنيقة محملة بروائح ورق الكتب المعتقة والقديمة.
إذاً ما زالت متعة القراءة تتمثل لدى قاعدة عريضة من القراء في تقليب الصفحات، ولكن هل يا ترى ستظل رائحة الورق في الأعوام القليلة المقبلة – لا سيما في ظل انتشار الكتاب بصيغته الإلكترونية – محتفظة بمكانتها كأحد أهم العوامل التي تجعل القارئ أكثر تمسكاً بإقتناء النسخ الورقية من الكتب؟ أم سيتجه القراء إلى النُسخ الإلكترونية مع الاستعانة بالشموع والعطور التي تفوح منها رائحة الورق المعتق؟