ينطبق على دار التنوير المثلُ السائر الذي يقول “لكلٍّ من اسمه نصيب”، فقد أسهمت هذه الدار منذ تأسيسها بين أواسط السبعينات وأوائل الثمانينات، بدور بارز في إشاعة التنوير عربياً، واتخذت لنفسها خطاً ونهجاً أصبحت تُعرَف بهما، وهو ما تمسكت به وحرصت عليه بعد انطلاقتها الثانية عام 2005، مؤكدةً على أهمية التفكير النقدي والدرس الفلسفي وتحرير العقل.
ولم يكن مشروع “التنوير” ليسلك هذه الوجهة مبكراً لولا اهتمام مؤسِّسه محمد زنابيلي بالفكر والفلسفة، فقد درس زنابيلي الفلسفةَ في القاهرة، ما أتاح له فرصة التواصل مع مفكرين وباحثين وفلاسفة وتوثيق علاقته بهم، ثم استقطابهم لاحقاً ليزينوا قائمة إصدارات “التنوير” بكتبٍ نوعية تنطوي على جرأةٍ ومخالفةٍ للسائد وتجديدٍ للفكر الديني ومنسوبٍ عالٍ من الجرعة النقدية. ومن أبرز هؤلاء: حسن حنفي، ونصر أبو زيد، وإمام عبد الفتاح إمام.
وواصلت الدار التوسّع في هذا الحقل، فاتحةً ذراعيها لأسماء من وزن محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وعبدالله العروي، وبرهان غليون، وعلي حرب، وجابر عصفور، وعلي أومليل، وفؤاد زكريا.
ثم تكفلت الترجمةُ بتعزيز هذا الخطّ وإثرائه، من خلال الاستعانة بمترجمين محترفين نقلوا إلى العربية أعمالاً لمشاهير المفكرين والفلاسفة في العالم، مثل هيغل، وكارل بوبر، وتوماس هوبز، وسبينوزا، وجون بول سارتر.
ولم يقتصر اشتغال “التنوير” على “العقل” وشؤونه، فقد انبرت الدار خلال مسيرتها لإصدار ترجمات عالية الجودة لروائيين عالميين، من مثل الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي، والغواتيمالي الفائز بجائزة نوبل ميغيل أنخيل آستورياس، واليابانيين ياسوناري كاواباتا، ويوكيو ميشيما، وشوساكا إندو، وفوكوزاوا يوكيتشي.
ولا يخفى على متابعٍ لحركة النشر العربية، الدور الذي اضطلع به حسن ياغي في إرساء دعائم مشروع “التنوير”، بدعمٍ من محمد زنابيلي، فقد التحق ياغي بالدار في عام 1983، وتولى مهماتٍ مختلفة من بينها مراجعة الكتب، والتأكد من سلامة العمل، ومتابعة أعمال الطباعة.
وكحال أيّ مشروع ثقافي جاد ورصين، تعرّضت الدار لعثرات مالية في عام 1986 حالت دون تمكّنها من إصدار كتب جديدة. ثم عادت إلى الساحة عام 2005 واستأنفت نشاطها بإدارة مصطفى قانصو، فأصدرت حوالي 150 عنواناً جديداً قبل أن يعود إليها ياغي في عام 2011، ليعيد وضع “التنوير” في موقع متقدّم على خريطة النشر العربي، وهو ما يمكن ملاحظته بإلقاء نظرة على مئات العناوين التي يشتمل عليها جناح الدار في أيٍّ من معارض الكتب العربية.
كان ياغي خلال فترة غيابه عن “التنوير”، قد تولّى مسؤولية النشر في دار نشر أخرى، واشتُهر على المستوى العربي بكونه محرراً فذّاً ومثقفاً طليعيّاً عميق المعرفة، إلى جانب خبرته في اكتشاف المخطوطات المهمة وتبنّيها وتسويق الكتاب والترويج له. لهذا لم يكن مستغرَباً أن تعيد “التنوير” في طبعتها الثانية، تسجيل حضورها اللافت في وقتٍ قياسيّ، وهو ما يؤكده فوز عدد من إصداراتها بجوائز عدة من أبرزها “البوكر”، ووصول عدد آخر إلى القوائم الطويلة والقصيرة لهذه الجائزة سنوياً. وكان “المايسترو” في ذلك ياغي، الذي قاده الشغف بالقراءة إلى تطوير قدرته على تحديد أهلية النصوص، ومدى صلاحيتها للنشر، واقتراح تعديلات لجعلها أكثر قوّة وجمالاً، وخاصة في ميدان الرواية.
وفي خضم الأحداث التي عصفت بالمنطقة في السنوات الأخيرة (بعد 2011)، طرح ياغي فكرة توسيع المشروع عربياً، وهو ما لاقى استحسان عدد من “رفاق المهنة” وحماستهم، وهكذا تأسست “دار التنوير-القاهرة” التي يديرها شريف جوزيف رزق، و”دار التنوير-تونس” التي يديرها نوري عبيد.
ورغم أن الطموحات بأن يكون للدار مقر كبير في مصر يضم قاعة محاضرات ومقهى ثقافياً وصالة لعروض السينما وأخرى للعرض الفني أُحبطت بسبب الأوضاع العامة، إلّا أن هذا لم يمنع من بقاء “التنوير” رقماً صعباً في صناعة النشر، بخاصة وهي تجتذب المزيد من الأسماء المبدعة عربياً، ومنهم من اختارها ناشراً حصرياً لأعماله، كما واصلت الدارُ إصدارَ ترجمات نوعية لفلاسفة معاصرين من مثل “لماذا نتفلسف” للفرنسي جان فرانسوا ليوتار، إلى جانب ترجمات لأعمال روائيين عالميين لم تُترجم إلى العربية سابقاً.
وبالتزامن، اتجهت “التنوير” إلى نشر ترجمات لكتب علمية معروفة عالمياً، مثل “التصميم العظيم” لستيفن هوكينغ وليونارد مولدينوو، و”تاريخ موجز للزمان” لستيفن هوكينغ، و”سحر الواقع” لريتشارد دوكينز، و”كون من لا شيء” للورانس كراوس.. كما أعادت نشر كتب من إصداراتها السابقة في فترة الثمانينات بطبعات جديدة. ونشرت أعمال عدد من أشهر الروائيين العرب من مثل عبدالرحمن منيف وإبراهيم الكوني وإدوار الخراط وربيع جابر ووجدي الأهدل وعزت القمحاوي وعيسى مخلوف.
مدير “التنوير-القاهرة” شريف جوزيف رزق، يؤكد أن مشروع “التنوير” قائم فعلاً على التنوير، موضحاً ذلك بقوله إن الدار تنشر كتباً تتبنى وجهات نظر مختلفة، وهذا “جزء من فكرة التنوير”، حيث السلطة المعرفية للفرد لا للمجتمع.
وحول إمكانية تفاوت أسعار الكتب بن بلد وآخر بتأثيرٍ من نسبة التضخم والأوضاع الاقتصادية، يوضح رزق أن هناك نظرة خاصة للسوق المصرية في الفترة الأخيرة، وذلك من خلال إصدار طبعات خاصة بمصر، وكذلك تخفيض السعر بنسبة 30%.
ويكشف رزق أن عدد إصدارات “التنوير” التي أصبحت الآن لبنانية مصرية تونسية، يبلغ حول 50 إصداراً سنوياً في المجالات الأساسية: الرواية، والكتاب العلمي، والكتاب الفكري والفلسفي. مبدياً قلقه من تراجع اهتمام القراء بالحصول على المعرفة، وهو ما أسهم في انتشار أعمال لا تقدم سوى التسلية على حساب الكتاب الفكري والفلسفي.
ويؤكد رزق أن أبرز العوامل التي تمثل تهديداً وجودياً لصناعة النشر هي التزوير (تصوير الكتب وبيعها)، والقرصنة (نشر الكتب الأصلية أو المترجمة من دون تعاقد مع المؤلف أو أصحاب الحق)، مشيراً إلى أن “التنوير” عضو في مبادرة “ناشرون من أجل المهنة” التي تسعى إلى إيجاد مساحة مشتركة بين الناشرين للعمل على تطوير كل ما له علاقة بالنشر والثقافة، وزيادة التعاون بين دور النشر في المشاركات في المعارض الدولية، ومواجهة الرقابة التي تمارَس على المنشورات والمطبوعات، بالإضافة إلى محاربة قرصنة الكتب، سواء القرصنة الإلكترونية أو تزوير الكتب المطبوعة.