باريس – شوقي بن حسن
ضمن سلسلة تسويق أية بضاعة، يظل التوزيع حلقة أساسية، فبدونها تذهب هدراً مجهودات تسبقها منذ عملية الإنتاج إلى التصميم، وصولاً إلى الإشهار. لذلك جرى الاستثمار في التوزيع فتخصّصت فيه الكثير من الشركات من المواد الغذائية إلى المنتجات الإعلامية.
لكن ماذا عن الكتاب؟ هذه البضاعة التي لها من الخصوصيات ما يجعل الكثير من حلقات تسويقها تختلف عن سائر البضائع.
في الحقيقة، يمكن القول: إن الكتاب من أكثر البضائع حساسية في عملية التوزيع، ورغم ذلك فإن وجود شركات توزيع متخصّصة بالكتاب لا يعدّ أمراً شائعاً، في البلاد العربية أو حتى في الغرب، حيث يجري إدماج هذه الحلقة مع حلقات أخرى.
لا يمثل التوزيع سبيلاً لتحقيق رواج الكتاب وحسب، وإنما ينعكس بصورة مباشرة على سعرة، إذ نشرت مؤسسة “كوبيمديا” الفرنسية دراسة، تبين أن كل عنصر يدخل في عملية النشر يؤثر في السعر النهائي للكتاب، وفيه يظهر أن حلقة التوزيع وحدها تساهم في خُمس سعر الكتاب، مقابل نفس النسبة تقريباً للطباعة فيما تتوزّع بقية النسب على هامش الربحية للبائع، وخدمات دور النشر، ومصاريفها، وحقوق التأليف والترجمة في حال كانت موجودة.
هذه النسبة الكبيرة التي يستهلكها التوزيع كثيراً ما أغرت دور النشر بإدماج خدمة التوزيع ضمن مهامها، غير أن هذا التصوّر هو نفسه أحد مشاكل التوزيع، إذ أن تفرّق مهمة التوزيع بين مؤسسات صغرى لا يسمح بتقليل كلفته، كما أن مسؤولي دور النشر يعرفون أن توزيع منتجات قليلة لا يتيح تطوير هذا النشاط كثيراً، وبالتالي يبدأون في الإحجام عنه تدريجياً.
هذا على مستوى عام، أما عربياً، فثمة واقع أكثر تعقيداً، تعود أسبابه إلى أن مؤسسات النشر أصغر حجماً والأسواق التي تتحرّك فيها هي الأخرى صغيرة، في ما عدا القليل منها التي تجد الفضاء التسويقي الأكبر، وتظل -في الوقت نفسه- محكومة لجملة العوائق اللوجيستية التي تقف أمام عملية توزيع سليمة وناجعة.
إلى جانب ذلك تتداخل سلسلة تسويق الكتاب في الساحة العربية، فكثيراً من الأحيان لا نفرّق بين دار النشر والموزّع وهو ما تشهد عليه الكثير من أسماء دور النشر حيث نجد فيها لازمة تتكرّر “دار ….. للنشر والتوزيع” دون أن يكون لذلك سند واقعي سواء على المستوى اللوجستي، أو على مستوى شبكة المسوّقين التي تتعامل معها، المكتبات غالباً، والتي تتداخل هي الأخرى مع دور الموزّع. وفي المحصّلة، تبقى المهمة معلقة بين أطراف كثيرة يُحجم معظمهم على التقدّم بقوة لقلة توقّعات الربح.
عامل آخر ينبغي الإشارة إليه وهو وجود أزمة ثقة بين عناصر الكتاب، لعل أوضحها علاقة دار النشر بالموزّع، وهي أحد أسباب محاولة دور النشر التكفّل بالمهمة والذهاب مباشرة بمنتجاتها إلى المكتبة، وهي أزمة شبيهة بتلك التي تقع في مستوى آخر من صناعة الكتاب يجري تسليط الضوء عليها أكثر؛ وهي العلاقة بين الكاتب والناشر.
في الأخير، نجد واقعاً كالذي يعيشه الكتاب العربي منذ عقود، وهو أن توزيع الكتاب يظل عملية فوضوية وروتينية، فنماذج التوزيع الأكثر تداولاً عربياً هي إرسال عدد محدود من النسخ للمكتبات يجري تسوية فواتيرها بعد البيع، أو تكفّل بعض شركات توزيع الجرائد والمجلات بذلك وهي تجربة أثبتت عدم نجاعتها حيث أن الكتاب يكون في آخر قائمة أولويات التسويق. أما فضاء التسويق الرئيسي فهو معارض الكتب التي كثيراً ما تضاربت مواعيدها وأرهقت دور النشر.
أزمة التوزيع أيضاً ينبغي فهمها من خلال خارطة أشكال وصول الكتاب إلى القارئ، حيث تشير التقديرات العالمية اليوم أن ثلث الكتب لا تزال تصل إلى القارئ عن طريق المكتبة، لكن هذه النسبة في تراجع مستمر بسبب تصاعد الإقبال على شراء الكتب من خلال شبكات التوصيل الإلكتروني مثل: أمازون، وبرايس مينستر، بالإضافة إلى خدمات تقدّمها مرافق مثل البريد أو مواقع ذات صبغة أشمل مثل غوغل، إضافة إلى بيع الكتاب وتسويقه في التظاهرات من نوع معارض الكتب، أو عبر المؤسسات الثقافية والأكاديمية التي غالباً ما تكون نتاج علاقة الناشر الشخصية مع المسؤولين عن هذه المؤسسات.
هكذا نفهم أن التوزيع بالشكل التقليدي في تراجع على مستوى عالمي، وبالتالي فإن الاستثمار فيه سيعرف انخفاضاً متواصلاً، الأمر الذي يطرح تساؤل: ما تأثير الانحسار المستمر للتوزيع على منظومة النشر بصورة عامة، وصناعة الكتاب بشكل خاص؟
يمكن الإجابة على هذا التساؤل بمعاينة متغيرات واقع التسويق المعاصرة، إذ يشير المستقبل إلى ابتلاع شبكات التوزيع الإلكتروني على رأسها أمازون وغوغل لسوق التوزيع، بغضّ النظر عن نوع البضاعة.
عودة إلى العالم العربي، علينا أن نشير إلى أن خدمات التوزيع الإلكتروني لا تزال تقطع ببطء خطواتها الأولى لتعقيدات إدارية وتخوّفات من الناشرين لا تعدّ ولا تحصى، وثمة مشاريع توزيع إلكتروني عربية مثل “نيل وفرات” و”جملون” لم تحظ بعد بالشعبية التي تحوّلها إلى سوق حقيقي للكتاب، كما يجري الخلط بينها وبين مواقع الكتب الإلكترونية.
يفرض هذا الواقع تساؤلات من نوع: هل تشغل هذه المعطيات بال الناشرين في العالم العربي؟ أم لا يزال معظمهم ينتهجون نفس المسالك كما في عقود خلت؟ لقد ظلت مسألة التوزيع معلقة منذ عقود ومؤجّلة، خصوصاً وأنها مرتبطة بقرارات (توسعة الأسواق) و(سياسات دور النشر).
يحتاج الأمر اليوم إلى تفكير مزدوج؛ ضمن المتغيّرات العالمية السريعة والحادة لكل من التوزيع من جهة وقطاع النشر من جهة أخرى، ويتطلب التفكير بناء على خصائص السوق العربية ومعطياتها، فمنظومة النشر العربية لم تتجاوز أبدأً إعاقتها الرئيسية؛ وهي بناء سوق حيويّ بحجم الفضاء الثقافي الذي تمثله المنطقة العربية واحتكاكاتها التاريخية والجغرافية مع مختلف بلدان العالم.