الخرطوم: ياسر فائز
أدب الخيال العلمي ظاهرة كتابة أدبية مميزة تقوم على الحقائق والظواهر العلمية وتستند إليها، وظهر هذا النوع من الأدب بمستوى احترافي عالٍ في أوروبا وأمريكا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عبر ما أنجزه جول فيرن Jules Verne وآيزاك أزيموف Issac Asimov وهربرت جورج ويلز H. G. Wells وغيرهم، بما حقق استباقا حدسياً خارقاً في رؤية الاختراعات والاكتشافات العلمية، لذلك يعد أدب الخيال العلمي سابقاً للعلم نفسه في تصور ابتكارات وعوالم المستقبل.
يصف الكاتب محفوظ بشرى مغامرة أدب الخيال العلمي بأنها “النافذة التي يختلس التطور منها مساراته”، وأن الخيال العلمي يدفع بالخيال إلى “حدود قصوى تشتبك بالمقبل وتصنع حياةً كاملة على مرمى سنوات لن نعيشها في الغالب، لذا فهي ساحرة وكأننا نتلصص على المستقبل من دون أن نبلغ حقاً الخلود”.
في عالم اليوم -الذي يخضع للتكنولوجيا وتتنامى فيه مكانة الاختراعات العلمية وتتسارع وتيرة البحث والاكتشاف العلمي، بحيث تتشابك مع الحياة اليومية- يجد أدب الخيال العلمي تجاوباَ أكبر، خاصة أنه أدب “يصنع المخططات، ويحذر من المآلات المحتملة، ويمكن للعلم بعدها الرضوخ لهذا الخيال المحض بمحاولة جعل المخططات هذه حيّة وحقيقيّة، أو أن يضع التدابير كي لا تتحقق المآلات التي تهدد الوجود البشري”، إذ لا حدود أمام الخيال العلمي ولا معوقات واقعية تجعله مربوطاً بالأرض وأسيراً لمنطقها، ويمكنه “إيجاد كواكب ومجرات قد لا توجد أبداً، مركبات ومبانٍ مستحيلة التنفيذ في وقتنا الآني، ملابس وآلات بمهام دقيقة يحلم بها العلماء وتؤرقهم”.
يتجلى هذا بالوقوف عند تجارب راسخة في أدب الخيال العلمي، إذ حلم فيرن في روايته “من الأرض إلى القمر” عام 1865م بصعود الإنسان إلى القمر، وقدّم تصورًا خياليًا للغواصة في روايته “عشرون ألف فرسخ تحت الأرض” التي صدرت عام 1870م.
ليس ذلك وحسب، فقد وافقت النظرية النسبية – التي أعلن عنها في العام 1905م – بعض تصورات هربرت ويلز في روايته “آلة الزمن” التي صدرت في العام 1895م، ومضى ويلز في تصورات أبعد لوصول الإنسان إلى القمر في روايته “أول الرجال على القمر” التي صدرت عام 1901م.
رسّخت المنجزات الكتابية لأوائل كتاب الخيال العلمي هذا النوع من الأدب، وسكّ هوغو جيرنباشر Hugo Gernsbacher عام 1926م مصطلح أدب الخيال العلمي Science fiction عبر مجلة “القصص المذهلة” التي كان يصدرها حينها، وأطلق اسم هوغو على أرفع جائزة أدب خيال علمي تقدم منذ العام 1953م، لكن لا مؤشرات على كتابة أدب خيال علمي عربي إلا مطلع خمسينات القرن الماضي على يد يوسف عز الدين الذي كان يقدم أعمالاً درامية في الإذاعة المصرية، وبعدها بسنوات برز الروائي نهاد شريف إلا أن أعماله لم تتجلى إلا في السبعينات عبر أفلام سينمائية، وشهدت فترة السبعينات عموماً ظهور عدد من كتّاب الخيال العلمي العربي مثل طالب عمران، ومصطفى محمود، وأعقبهم نبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق، ثم ظهر إبراهيم عباس، إلا أن جميع هذه الأعمال لم تحقق حضوراً عالميا، ولم تأخذ حيزًا مقدرًا في خارطة الأدب العربي المعاصر.
ويقول محمد عمر الناشط في حقل النشر: “اقتناء كتب أدب الخيال العلمي في نطاق القراء بالعربية ضعيف، أمام صعود الرواية الاجتماعية، ورواية قصص الرعب التي تستمد موضوعها من الموروث التقليدي العربي حول الجن والشياطين”.
ومن الملاحظ أن نشوء أدب الخيال العلمي ارتبط برسوخ حركة الإنتاج، لذا نشأ بعد حوالي قرن من تحقق الثورة الصناعية في أوروبا، وهو تفتقد إليه المنطقة العربية، فضعف وربما غياب الإنتاج – بكافة أنواعه وبمختلف مستوياته – لا يمنح أرضاً خصبة لأدب الخيال العلمي، إذ يرتبط الأمر بالإنتاج الصناعي والتكنولوجي وحركة البحث العلمي وكذلك الإنتاج الفكري ولا ينفصل عن مدى فعالية الإنتاج الفني والأدبي عموما.
مع محدودية المنجز الأدبي في هذا النوع وضعف النشر، لم يتمكن الحراك الأدبي العربي من تحديد بيانات واضحة حول مدى نشر أدب الخيال العلمي، كما لم توجد دار نشر عربية متخصصة في الخيال العلمي حتى سنوات قريبة، إلا أنه تأسست في السنوات الماضية “رابطة الخيال العلمي العربي؛ يتخيلون” كما أنشئ موقع “سندباد” على الإنترنت من أجل الدفع بأدب الخيال العلمي في المنطقة العربية، وأسست الكاتبة الإماراتية نورة النومان دار نشر متخصصة بأدب الخيال العلمي تحت عنوان “مخطوطة 5229”.
تظل هذه الجهود محدودة للغاية، ولا تحقق اختراقا في نشر كتاب الخيال العلمي حتى الآن، وإن كانت رابطة الخيال العلمي العربي عبر موقعها على الإنترنت “يتخيلون” قد أتاحت أربعة كتب للاقتناء.
يرى محمد عمر أن صناعة نشر أدب الخيال العلمي يمكن أن تقدم فوائد تنموية بشرية كبيرة على المدى الطويل إذا ما استثمرت مؤسسات ذات رؤية تنموية مستقبلية في قطاع تطوير نشر أدب الأطفال المرتبط بأدب الخيال العلمي.
ويشير عمر إلى أن أدب الخيال العلمي يرتبط بصورة وثيقة بأدب الأطفال المخصص للمراحل السنية الصغيرة حتى مرحلة المراهقة فإن تقبّل أدب الخيال العلمي وسط فئة الأطفال والمراهقين، أفضل مما هو عليه في الفئات السنية الأكبر.
وكان الكاتب طالب عمران كتب قصصه في مزج بين أدب الخيال العلمي وأدب الأطفال في أكثر من خمس إصدارات، لاقت نجاحاً نسبياً في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ووجد الأطفال والمراهقون في سلسلة “ملف المستقبل” لنبيل فاروق، ما يغازل خيالهم ويحاور تساؤلاتهم، وتعد هذه السلسة التي أصدرت حوالي 160 كتابا، منذ تسعينات القرن الماضي حتى العقد الأول من الألفية الثالثة، هي الأعلى انتشارًا وتوزيعًا، مما يضعها كتجربة راسخة يمكن استلهامها وتطوير منهجيتها، وأيضا توسيع دائرة الموضوعات، فسلسلة “ملف المستقبل” تمزج بين الأدب البوليسي والخيال العلمي، إذ يمكن تخطي الواقع الافتراضي ومعالجة مشكلات العالم العربي في أدب الخيال العلمي، مثل التلوث البيئي والمياه والفقر، وحتى تحرير الإمكانات العقلية الخفية للإنسان، وكذلك الاستفادة من أدب الخيال العلمي في البرامج التعليمية المدرسية، إلى جانب ضرورة والعمل على استثمار تنموي مستقبلي يركز على توسيع أدب الطفل حتى تنميته بالمراحل العمرية ليصبح بعدها مادة شيقة ومقروءة مناسبة لكل الأعمار.
يتفق المتخصصون في أدب الخيال العلمي والعاملين على صناعته ونشره أن هذه المهام من الصعب أن تتولاها دور النشر العربية المعاصرة بسبب شح مواردها وضيق سوقها التنافسي، إذ يرونه أنه لا بد من توجيه اهتمامات التنمية البشرية الثقافية في المؤسسات الحكومية أو منظمات المجتمع المدني للاستثمار في تنمية، وتشجيع قطاع النشر في أدب الخيال العلمي كضرورة تنموية معاصرة وإمكان انفتاح خيالي للمستقبل.