عندما وضعت ج. ك. رولينغ (J. K. Rowling) النقطة الأخيرة في الجزء السابع من “هاري بوتر” عام 2007، تخيّل البعض أن عالم السحر الأدبي قد أُغلقت أبوابه، وأن مغامرات الصبي اليتيم الذي نجا من الموت ستنتهي مع آخر كلمة في رواية “مقدسات الموت” (The Deathly Hallows). لكن مع مرور الوقت، برزت حقيقة مختلفة تماماً: ما بدأ كقصة خيالية لطفل صغير، أصبح إرثاً ثقافياً عالمياً يمتد تأثيره إلى مجالات تتجاوز الرواية والكتاب.
أدبياً، ما تزال السلسلة حاضرة بقوة في المشهد القرائي حول العالم. إذ تصدر باستمرار طبعات جديدة مزدانة برسوم معاصرة، وتُترجم إلى لغات إضافية، وتصل إلى أجيال لم تعاصر نشر الأجزاء الأولى. وهناك اليوم مراهقون وأطفال يكتشفون عالم “هوغوورتس” (Hogwarts) للمرة الأولى، ليصبح السحر بالنسبة لهم اكتشافاً شخصياً، لا إرثاً قديماً، ولتحتفظ الرواية، بأجزائها السبعة، بقدرتها الفريدة على بناء الجسور بين القرّاء من مختلف الأعمار والثقافات.
لكن نجاح “هاري بوتر” لم يتوقف عند حدود الأدب وحده، بل تحوّل إلى مشروع ثقافي متكامل داخل ما يُعرف بـ”العلامة الأدبية المتعددة الوسائط” (Multi-platform Literary Brand). فمن الأفلام السينمائية التي أعادت تشكيل شخصيات الرواية بصرياً، إلى عروض مسرحية مثل “الطفل الملعون” (The Cursed Child)، إلى المنتزهات الترفيهية في أورلاندو ولندن وطوكيو، بات عالم “هاري بوتر” مساحة مفتوحة للخيال والتجربة تتجاوز القراءة التقليدية إلى المعايشة الحسّية.
وإلى جانب الحضور الأدبي والتجاري المعاصر، برزت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة المزادات العالمية على الطبعات الأولى من سلسلة “هاري بوتر”، والتي أصبحت من أكثر الإصدارات طلباً في أسواق الكتب النادرة. إذ حققت بعض النسخ الأولى من الجزء الأول: “هاري بوتر وحجر الفيلسوف” (Harry Potter and the Philosopher’s Stone) أسعاراً قياسية تجاوزت مئات الآلاف من الدولارات في مزادات بريطانيا والولايات المتحدة. إذ لم تعد هذه الطبعات مجرد كتب قديمة، بل تحوّلت إلى مقتنيات ثقافية ذات قيمة رمزية تعكس حجم الأثر الذي تركته السلسلة على قرّائها وعلى سوق الكتب النادرة حول العالم.
ورغم ظهور أجيال جديدة من القراء الذين تستهويهم عوالم فانتازيا أخرى مثل أعمال “ريك ريوردان” (Rick Riordan) حول الميثولوجيا اليونانية والرومانية، وسلسلة “شادو آند بون” (Shadow and Bone)، فإن إرث “هاري بوتر” يظل متفرّداً في المشهد الأدبي والثقافي الحديث. فنجاح السلسلة لا يقاس بعدد النسخ المباعة التي تجاوزت النصف مليار نسخة، ولا بعدد الترجمات أو الجوائز فحسب، بل في قدرتها على صناعة جيل كامل من القراء الذين اكتشفوا متعة القراءة بفضل بوابة السحر هذه، حيث تحوّلت الرواية من نص أدبي إلى تجربة تكوينية شكّلت جزءاً من ذاكرة ملايين الأشخاص حول العالم، وأسست لما يمكن وصفه بـ”جيل هاري بوتر” ثقافياً وأدبياً.
ربما انتهت السلسلة نصياً قبل ثمانية عشر عاماً، أو بمعنى أدق توقف إصدار أجزاء جديدة منها، لكنها ما تزال حاضرة في رفوف المكتبات، ومتاجر المقتنيات، وفي خيال أجيال جديدة من القرّاء الذين أدركوا أن متعة الأدب قد تبدأ أحياناً بعد آخر صفحة في الكتاب.