تعد أقدم مؤسسة فيدرالية ثقافية في الولايات المتحدة والذراع البحثية لأعضاء الكونغرس
على مر التاريخ الإنساني الذي يمتد إلى حقب ما قبل الميلاد، ظهرت الكثير من المكتبات التي انحصر دورها في مساندة الحكام والمسؤولين الحكوميين والنخب الدينية، حيث أدت النصوص والمكتبات عبر التاريخ دوراً مهما في حفظ المدونات الدينية وسجلات الأسر الحاكمة وفي دعم الأنشطة الضرورية لإدارة الامبراطوريات، قبل أن يتسع نطاق هذا الدور ليشمل فيما بعد دعم الدراسات العلمية والأنشطة الفكرية والثقافية الأخرى للحضارات الناهضة والمتقدمة.
ومنذ تطور اللغة المكتوبة والتمكن من حفظ المعلومات ونقلها عبر الزمان والمكان، بدءاً باستخدام الألواح الطينية مروراً بلفائف البردي وصولاً إلى الورق والكتاب، ظهرت آلاف المكتبات التي أسهمت في تسريع عجلة التمدن وتقدم المعرفة والثقافة الحديثة استناداً إلى القراءة والكتابة والتوثيق للإنتاج الفكري والثقافي للإنسان.
وبالحديث عن المكتبات ودورها في دعم صُناع القرار والسياسيين يتبادر إلى الذهن مباشرةً تجربة مكتبة الكونغرس الأمريكي، التي تعد أقدم مؤسسة فيدرالية ثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي بمثابة الذراع البحثية للكونغرس، بل وتُعد أيضاً أكبر مكتبة في العالم، حيث تبلغ مساحتها 39 هكتاراً، ويمتد طول أرففها إلى نحو حوالي 856 كيلو متراً، وتضم هذه المساحة الشاسعة الملايين من الكتب والتسجيلات والصور الفوتوغرافية والخرائط والمخطوطات.
تأسست مكتبة الكونغرس في 24 أبريل 1800 بمرسوم من الرئيس الأمريكي جون آدمز عندما أصدر قانوناً لنقل كرسي الحكومة من فيلادليفيا إلى واشنطن العاصمة الجديدة آنذاك، وخصص الكونغرس وقتها 5 آلاف دولار أمريكي لتكون رأسمال المكتبة التي ظل موقعها في الكونغرس حتى عام 1814 عندما قام الجنود الإنجليز بإحراقها، ليقوم بعدها الرئيس المتقاعد توماس جيفرسون بتقديم مكتبته الخاصة التي كانت تضم 6487 كتاباً بهدف تعويض الدمار الذي لحق بمكتبة الكونغرس، وفي العام 1815 أعلن الكونغرس قبول تبرع جيفرسون وتعويضه بمبلغ 23950 دولاراً أمريكياً، ليتم بعدها مباشرةً الإعلان عن تأسيس المكتبة الوطنية.
وتُعد مكتبة الكونغرس اليوم مورداً عالمياً لا مثيل له، حيث تضم 160 مليون مادة مختلفة، منها 38 مليون كتاب ومطبوعات أخرى بـ450 لغة، إلى جانب أكثر من 60 مليون وثيقة، و12.5 مليون أسطوانة، مما جعلها تنال لقب أكبر مرجع في العالم للمواد القانونية والخرائط والأفلام والمعزوفات الموسيقية، كما تضم المكتبة 650 فيلماً من كلاسيكيات هوليوود وأفلاماً وثائقية أخرى تعود إلى حقبة بداية ظهور السينما الأمريكية، وتمثل المكتبة السجل الوطني الأمريكي للأفلام الوثائقية، وحالياً لم تعد المكتبة تكفي لاستيعاب مقتنيات جديدة، لذا يتم الاحتفاظ بالكتب والتسجيلات غير المصنفة في أبنية بولايتي ماريلاند وفيرجينيا.
في بداية التأسيس كان الهدف الأساسي من المكتبة هو دعم أعضاء الكونغرس في تأدية واجباتهم الدستورية وتحقيق مزيد من الارتقاء في المعرفة والإبداع لمصلحة الشعب الأميركي، واستمر ذلك حتى الأول من نوفمبر 1897 وهو التاريخ الذي تم فيه افتتاح المكتبة أمام الجمهور لتصبح أول مكتبة عامة لكل الشعب الأمريكي، وأول مكتبة بهذا الحجم مفتوحة أمام عامة الشعب، وتستضيف المكتبة حالياً آلاف الباحثين وأكثر من مليوني زائر سنوياً، ويصل عدد العاملين فيها إلى 3138 موظفاً وعاملاً. وبموجب قانون صدر في العام 1870، تعد المكتبة هي المسؤولة عن إعطاء أرقام الإيداع لجميع الكتب الجديدة في الولايات المتحدة وكندا.
وشهد مقر مكتبة الكونغرس العديد من التنقلات والتغيرات، حتى استقر بها المقام أخيراً في مدينة واشنطن دي سي داخل مقر الكونغرس في منطقة الكابيتول هيل، وهي تتألف من ثلاثة مبان ترتبط ببعضها البعض، الأول هو جناح توماس جيفرسون (الرئيس الثالث) وافتتح في العام 1897، ويعرف بمكتبة الكونغرس الرئيسية، وشيد على الطراز المعماري السائد في عصر النهضة، والمبنى الثاني هو جناح جون آدمز (الرئيس الثاني) وافتتح في العام 1938، أما المبنى الثالث فهو جناح جيمس ماديسون (الرئيس الرابع) وافتتح في العام1981 .
في العام 2009 شرعت مكتبة الكونغرس في تدشين مشروع مكتبة العالم الرقمية بهدف الحفاظ على أكثر من 60 ألفاً من الكتب القديمة والنادرة القيمة التي يصعب تداولها والاطلاع عليها دون الإضرار بها، وتتميز المكتبة بمواد رقمية عالية الجودة تعكس التراث الثقافي لجميع دول العالم الأعضاء في اليونسكو.
ومن بين المواد التي تضمها المكتبة الرقمية للكونغرس، أكثر من ألفي وثيقة عربية ذات قيمة علمية وتاريخية كبيرة تضم أول مصحف مترجم إلى اللغة الإنجليزية، ونوادر مخطوطات عربية قديمة، ولوحات فنية للمسجد الحرام، والمسجد النبوي، والروضة الشريفة، والمسجد الأقصى، وتهدف المكتبة الرقمية التي تأتي بشراكة تجمع مكتبات ومؤسسات ثقافية من جميع أنحاء العالم إلى تعزيز التفاهم بين الدول والثقافات، وتوسيع حجم المحتوى الثقافي على الإنترنت كماً ونوعاً، وتوفير مواد للتربويين والباحثين والجمهور العام.