عمّان – جعفر العقيلي
“لماذا أضطر إلى الدفع للناشر كي يصدر كتابي؟”، هذا السؤالُ الأكثرُ تكراراً في أوساط المؤلفين العرب، يبدو مُبَرَّراً عند النظر إليه من زاويتهم، لكن الاستماع لما يقوله الناشرون في هذه المسألة يجعل المرءَ يعيد حساباته، ويدرك أن الطرفين الأساسيين في عملية النشر ليسا سوى “ضحيّتَين” لسياقٍ عامّ غيرَ صحّي وغير سويّ.
في هذا السياق الذي يبدو سمةً “عربية” بامتياز، من المتوقَّع أن تكون العلاقة بين الناشر والمؤلف ملتبسة، تنطوي على سوء الفهم وتبادل الاتهامات، يغذّي ذلك الموقفُ الإعلاميُّ عموماً، الذي يصطفّ إلى جانب المؤلف، وينظر إلى الناشر بوصفه “تاجراً جشعاً” أقرب إلى “شيلوك”، متناسياً أن صناعة النشر ليست شأناً ثقافياً فحسب، وإنما هي -قبل ذلك- شأن تجاري أيضاً، بما يسوّغ تفكير الناشر بـ”جيبه” وحرصه على “المردود” بوصفه مستثمراً في هذا القطاع.
“أنا ضد أن يدفع المؤلف لطباعة كتابه ونشره بعد أن بذل فيه جهده، سواء أكان الكتاب أكاديمياً أو إبداعياً”، يقول الناقد والشاعر د.حكمت النوايسة، لأن هذا السلوك برأيه “يشوّش على المشهد، ويخلط الحقيقي بغير الحقيقي، ويشيع الرداءة”، بمعنى أن من لديه المال يستطيع نشر كتبه مهما تدنّى مستواها، ومَن ليس لديه المال تظل كُتبه حبيسةَ الأدراج مهما بلغ تميّزها بانتظار الفرج.
وفي الوقت الذي يقرّ فيه النوايسة بأنّ هذا ليس ذنب الناشر، فالناشر في النهاية “تاجر يهمّه الربح”، إلّا أنه يؤكد أن وجود “السياق الثقافي الصحي” سيدفع الناشر للبحث عن المؤلف “الحقيقي” وتبنّي كتبه كما يحصل في الغرب، مشيراً إلى “بوادر انفراجة طيبة في بلدان الخليج العربي”، إذ تبادر دور النشر إلى تبني الكتب إن كانت تستحق ذلك.
وليس ببعيدٍ عن موقف النوايسة، لا يخفي الشاعر والقاص علي طه النوباني أنه يفكر بمشاكل النشر قبل أيّ شيء آخر لدى الشروع بإعداد أيٍّ من مؤلفاته للنشر، ويؤكد أنه “ذاق مرارات عديدة” على أيدي الناشرين، ما جعله يعزف أحياناً عن الكتابة.
ويعيد النوباني طرح السؤال: “لماذا أدفع للناشر مقابل طباعة كتابي وتوزيعه؟”، مستعيداً ذكرياته مع الناشرين الذين أصدر كتبه من خلالهم متحملاً تكاليف الطباعة: “بعضهم لم يلتزم بعدد النسخ المتفق عليه فطبع نصف العدد ليربح أكثر، وبعضهم الآخر لم يلتزم بالمواصفات فاستخدم آلة تصوير رديئة لخفض النفقات أيضاً، والأسوأ من ذلك أنني وجدت في أحد كتبي خطأً في ترتيب الصفحات على نحو مزعج للغاية”.
ويرى النوباني أن هدف الناشر الذي يقبض كلفة الطباعة من المؤلف، هو تأمين “ربح بسيط” دون أيّ “جهد حقيقي” في عملية النشر والتوزيع، وهو ما يجعل مثل هذا الناشر لا يراوح مكانه غير حريص على التوسع أو الشهرة.
ويتخيّل النوباني المشهد لو أن الناشر يتجه لإصدار الكتب من دون أن “يقبض” من المؤلف: “من المؤكد أنه سيهتم بالجودة، ليكفل مبيعات أكثر، ويحقق بالتالي أرباحاً أكثر، وسيريح المؤلف من عبء التفكير المستمر في مشكلة النشر، بل إنه سيحفز المؤلف على الاهتمام بجودة ما يكتب لكي يجد ناشرين يتبنّون كتابه، وعلى الأغلب فإنه سيرضى بحصة مناسبة من أرباح الكتاب إذا تحققت”.
الروائي والشاعر جلال برجس يتحدث هو الآخر من زاوية النظر نفسها، إذ “لا يُفترض بالمؤلف أن يدفع لقاء نشر كتابه وتوزيعه”، انطلاقاً من أن علاقته بالناشر يجب أن تكون “مبنية على جودة النص وتَحقُّق جملة من العناصر فيه ليصل إلى القارئ فيحقق مقروئية للمؤلف ويجني ربحاً للناشر والمؤلف على حد سواء”.
لكن الحاصل في قطاع النشر العربي كما يؤكد برجس، هو على خلاف ما يحدث في الغرب، إذ يتكرر عربياً أن المؤلف المغمور يدفع مقابل نشر كتابه، بل و”يمتنّ كثيراً للناشر على صنيعه”، مع علمه أن الناشر يحقق ربحاً من وراء الكتاب يضاف إلى ما تقاضاه منه، بينما لا يتلقى المؤلف في الغالب أيّ نسبة من المبيعات.
هذه المعادلة “الظالمة للمؤلف” بحسب تعبير برجس، لا تتغير “إلّا إذا رسخ المؤلف نفسه أو نال جائزة معروفة، وبالتالي يصبح متداوَلاً بنسبة أكبر بين القراء”. وللتأكيد على ما ذهب إليه، يستعرض برجس تجربته الشخصية بعد نيله جائزة عربية وترجمة روايته الفائزة للإنجليزية والفرنسية؛ “قبل ذلك كنت أدفع مقابل نشر كتبي، وما إن فازت روايتي حتى تلقيت عروضاً بإعادة نشر كتبي القديمة دون مقابل وبنسبة مبيعات جيدة، وقُدمت لي عروض بالترجمة، وبتحويل رواياتي إلى أعمال درامية”.
أما أحمد فرّاس الطراونة، وهو روائيّ وشريك مؤسس في دار نشر ثقافية، فهو يقف في المنطقة الوسطى، مقرّاً بأن العلاقة بين المؤلف والناشر شائكة، وبأن كلّاً منهما “يتربص بالآخر” لـ”يصطاده”؛ فالناشر من جهة يدفع باتجاه “الاستحواذ” على منتَج المؤلف و”استثمار” مشروعه الإبداعي ليحقق الربح، مكبّلاً إياه بعقدٍ قد لا تنتهي صلاحيته. والمؤلف من جهة أخرى، يريد تحقيق أكبر قدر ممكن من المكتسبات، مادياً ومعنوياً، من دون أن يساهم في تحمّل المخاطرة مع الناشر، ويسعى لفرض شروطه وإن كان بعضها “مجحف أو “غير منطقيّ أو تعوزه الوجاهة”.
ويقترح الطراونة صيغة “توافقية” معمول بها في الغرب؛ أن يدفع المؤلف تكاليف طباعة كتابه، ثم يستعيد ما دفعه من الناشر بالإضافة إلى هامش من الربح، حتى لو كان هذا الربح نُسَخاً من كتابه، لكن في المقابل “على المؤلف أن يكون مستعدّاً للخسارة، بخاصة إن كان ناشئاً أو غير معروف، وأن يتحلّى الصبر والمثابرة حتى يتكرس اسمه”، على خلاف المؤلفين الذين يحظون بقاعدة عريضة من القراء، فهؤلاء يتهافت الناشرون عليهم، ولا يضطرون لمثل هذه الصيغة.
ولكن، ماذا يقول الطرف الآخر من المعادلة؟
“حتى في أوروبا، يدفع المؤلف للناشر إذا أراد نتيجة أفضل لكتابه”. هذا ما يؤكده الناشر أحمد اليازوري، مؤسس عدد من دور النشر في الأردن وصاحب المبادرات في ترويج القراءة. ويضيف: “صيغة النشر المموَّل منتشرة في الغرب، ويلجأ إليها المؤلفون الذين لا يجدون ناشراً يتبنى أعمالهم”.
وبحسب اليازوري، تشكل دور النشر الخاصة في الوطن العربي أكثر من 70 بالمئة من المؤسسات التي تُنتج الكتاب، لكن غالبيتها ما تزال غير قادرة على تحمّل كلفة هذه العملية بمفردها، ولا تستطيع إعطاء المؤلف المردود الذي يأمله أو يطمح إليه من النشر، في ظل انهماكها بالمراحل الثلاث الأساسية لصناعة الكتاب: الترويج، والإعلان، والتوزيع.
ما يحدث في العادة، والكلام لليازوري، أن الناشر يتحمّل أحياناً كلفة طباعة الكتب التي يضمن بيعها سلفاً، ويكاد هذا ينحصر في الكتب الأكاديمية والكتب الثقافية التي يحظى مؤلفوها بجماهيرية ويُقبل القراء على شراء أعمالهم. وهو يؤكد أن هناك ناشرين كثراً بموازاة ذلك، ينطلقون من رسالتهم الثقافية وواجبهم القومي أو الوطني أو الاجتماعي، فيتبنون كتباً “خاسرة” و”غير شعبية” رغم أنها ذات سوية عالية وصالحة للنشر.
ويجد اليازوري نفسه مضطراً للتذكير أن صناعة النشر هي “استثمار في الثقافة، يقوم على الخسائر والأرباح”، وأنها “عملية لها معايير تحكمها”، وتحتاج إلى موازنات ضخمة لتؤدي دورها، مستثنياً من ذلك دور النشر الموجّهة سياسياً أو فكرياً والتي تتلقى دعماً مادياً ولوجستياً من جهاتٍ ومؤسسات هدفُها “ترويج الأفكار لا جني الأرباح”.