في 30 أغسطس 2024، نحتفل بالذكرى الثامنة عشرة لرحيل الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ، العربي الوحيد الفائز بجائزة نوبل للآداب، والذي ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الأدب العربي. وبينما يُعرف محفوظ عالميًا برواياته البارزة مثل “ثلاثية القاهرة” و”أولاد حارتنا”، فإن هناك العديد من الأعمال الأخرى التي تستحق الاهتمام والتقدير. وتقدّم لنا هذه الروايات نافذة إضافية على عبقرية محفوظ الأدبية وتنوعه في سرد القصص.
من خلال هذا التقرير، سنأخذكم في رحلة لاستكشاف بعض من أعمال نجيب محفوظ الأقل تداولًا، لنسلّط الضوء على جوانب مختلفة من إبداعه ونكشف عن كنوز أدبية رغم غيابها عن الأضواء؛ إلا أنها تحمل في طياتها عبق الروح المصرية وأصالة أدبها.
رحلة ابن فطومة
“الشكوى هي لغة الإنسان المشتركة”
تحكي هذه الرواية الفريدة من أدب الرحلات، قصة فتى غادر وطنه بعد أن فرّق القدر بينه وبين محبوبته، ليتنقل بين عدة بلاد؛ تمثل كل واحدة منها اتجاهاً فكرياً معيّناً. يقارن ابن فطومة في رحلته بين هذه البلدان ووطنه الأم، باحثاً عن الصورة الأمثل للحياة، وفي كل بلد يصلها تنتظره مغامرة جديدة.
رواية رمزية بامتياز رغم سلاسة قصتها وانسيابيتها؛ إلا أنها لا تخلو من الإسقاطات والأفكار المبطنة، التي يريد محفوظ إيصالها للقارئ. رغم قلة شهرتها مقارنة بنظيراتها، إلا أن هذه الرواية تحفة أدبية وفكرية تستحق أن يُحتفى بها في هذا المقام.
نُشرت الرواية للمرة عام 1983 عبر مكتبة مصر، وأصدرتها دار الشروق لاحقاً عام 2006، ومؤخراً أطلت الرواية بحلة جديدة بإصدارها من دار ديوان ضمن “مشروع نجيب محفوظ” عام 2023.
الكرنك
“- هل نيأس يا زينب؟
– كلا، إنها فترة كالوباء ثم تتجدد بعدها الحياة”
في رواية “الكرنك” التي صدرت للمرة الأولى عام 1974، يستعرض نجيب محفوظ تأثيرات التغيّرات السياسية والحروب على حياة الشباب المصري من خلال تجربة مجموعة من الشباب في مقهى “الكرنك”. تُعبّر الرواية عن فترة حاسمة من تاريخ مصر، بدءاً من قبل النكسة، وصولاً إلى حرب الاستنزاف وما قبل حرب أكتوبر.
تقدّم الرواية مشهداً اجتماعياً معقداً، حيث تعرض فئات مختلفة من المجتمع؛ كبار السن الغارقين في الذكريات، والشباب الذين كانوا مفعمين بالأمل في الثورة، إضافة إلى شخصيات تتلون حسب مصالحها الشخصية. من خلال سرد معاناة هؤلاء الشباب، يطرح الكاتب تساؤلات حول كيفية قبول الشعب المصري للوضع القائم آنذاك. تتجاوز “الكرنك” كونها سرداً سياسياً لتكون تأملًا عميقًا في سيكولوجية المجتمع ومعاناته.
السَّمَّان والخريف
“الأحداث المهمة تقع فجأة وبلا سابق إنذار..”
تعد رواية “السَّمَّان والخريف” لنجيب محفوظ واحدة من أبرز أعماله التي تسلّط الضوء على الجوانب النفسية والفلسفية لحياة الإنسان في ظل تقلّبات السياسة والاجتماع. تتناول الرواية تجربة عيسى الدباغ، وهو نموذج لشخصية تعاني من الضياع والتشوش نتيجة الانهيارات السياسية والاجتماعية التي تجتاح حياته. من خلاله، يقدّم محفوظ رؤية عميقة لتأثير التغيّرات السياسية على النفس البشرية، مشيراً إلى كيف يمكن للأزمات والضغوط السياسية أن تفضي إلى حالة من الضياع الوجودي.
الرواية التي صدرت عام 1962 ليست مجرد سرد لحياة بطلها، بل هي تأمل في كيفية تأثير التحولات الكبرى على الأفراد وإدراكهم لذواتهم. تبرز الرواية الجانب الفلسفي من الحياة، مستعرضةً صراعات الفرد الداخلية مع ذاته ومع العالم المحيط به.
تأخذنا روايات نجيب محفوظ الأقل شهرة، في جولات عميقة داخل أعماق الحياة الإنسانية وتاريخ مصر. من خلال تقديم صور حية لصراعات الأفراد مع الواقع والتغيّرات السياسية. بمناسبة ذكرى رحيله، تظل أعمال نجيب محفوظ حيّة في ذاكرة الأدب العالمي، مستمرة في إلهام الأجيال القادمة لاستكشاف أعمق معاني الحياة والتحديات التي تواجه الإنسان.