في زحام الحياة وتحدياتها المتزايدة، يبحث الإنسان عن سبل آمنة للتنفيس عن مشاعره ومداواة جراحه النفسية. وهنا تأتي القراءة بوصفها أكثر من مجرد هواية، بل طقساً داخلياً للتصالح مع الذات. فالكتاب لا يمنحنا الكلمات فحسب، بل يتيح لنا إمكانية رؤية انعكاساتنا في مواقف وتجارب تشبهنا، مهما اختلفت عنا شكلاً أو زمناً.
من هذا المنطلق، وُلد مفهوم “العلاج بالقراءة” أو ما يُعرف بـ”البيبليوثيرابي”، والذي يعتمد على قوة النصوص في فتح نوافذ الأمل، وبناء الجسور بين التجربة الشخصية والمخزون الجمعي للقصص والحكايات. وهو أسلوب عُرف منذ القدم، لكنه بات اليوم يحظى باعتراف متزايد من قبل الأخصائيين النفسيين والمربين، الذين وجدوا في الأدب وسيلة فعّالة للتهدئة، والتوجيه، وإعادة التوازن العاطفي.
ومن هنا، يمكن القول إن الكتب ليست مجرد وسيلة للمعرفة أو التسلية، بل يمكن أن تكون ملاذاً للروح، وأداة فعّالة لمواجهة الأزمات النفسية. وهذا ما تؤمن به “القراءة العلاجية”، التي تسمح للقارئ بأن يجد نفسه في النص، ويعيد تأطير مشاعره من خلال التماهي مع الشخصيات أو تأمل الأحداث. فالكلمات تخفف الأعباء، وتُظهر للطفل أو اليافع أن ما يشعر به ليس غريباً أو معيباً، بل إنسانيّ بامتياز.
وقد بادر المجلس الإماراتي لكتب اليافعين منذ عام 2017، إلى تنظيم سلسلة ورش مكثفة لتأهيل أول فريق إماراتي متخصص بالعلاج بالقراءة. وشكّل هذا الفريق نواة حقيقية لجهود ممنهجة شارك فيها كتّاب وناشرون وأخصائيون نفسيون، بهدف تسخير الأدب لتحسين الصحة النفسية للأطفال واليافعين. ونتج عن هذا الجهد المشترك إعداد قائمة عربية بالكتب المناسبة لاستخدامها مع الأطفال الذين يعيشون أوضاعاً صعبة، ولا سيما من تأثروا بالحروب أو الكوارث أو الاضطرابات.
وفي عام 2018، قام المجلس بإعداد أول دليل عربي متخصص في القراءة العلاجية، والذي شكّل مرجعاً عملياً ونظرياً، يتضمن مراحل العلاج بالقراءة، وفروقها عن الأساليب الطبية البحتة، ووفر أدوات لاختيار النصوص المناسبة لكل حالة. وقد صدر الدليل في عام 2021 عن مجموعة كلمات، ليملأ فراغاً كبيراً في المكتبة العربية، ويقدَّم بوصفه نموذجاً قابلاً للتطبيق في المدارس، والمكتبات، والمراكز العلاجية.
ولعل ما يميّز هذه التجربة هو انفتاحها على مختلف أشكال الكتب، بما فيها الكتب الصامتة، التي أثبتت فعاليتها في البرامج العلاجية، خصوصاً مع الأطفال الذين لا يجيدون القراءة بعد، أو الذين يعيشون في بيئات متعددة اللغات. فهذه الكتب تتيح للقارئ إنتاج المعنى بنفسه، والتعبير عن مشاعره بحرية، من دون توجيه مباشر. وقد حرص المجلس على تنظيم معارض متخصصة في هذا النوع من الكتب، وتضمينها ضمن أدوات العلاج بالقراءة.
وفي زمن تزداد فيه الحاجة إلى دعم الصحة النفسية للأطفال واليافعين، تأتي مبادرة المجلس الإماراتي لكتب اليافعين لتقدّم نموذجاً يحتذى به، يجمع بين الأدب والعلاج في بوتقة واحدة. فمن خلال هذا المشروع، لم يوفر المجلس كتباً فقط، بل قدّم أملاً، ومساحات آمنة للتعبير، ورسائل ضمنية تقول لكل طفل: “أنت لست وحدك، هناك قصة تشبهك، وهناك طريق للتعافي والتفاؤل بالغد”.