بدأت نشر قصصي القصيرة في منتصف السبعينات، وخلال ما يزيد على العقود الثلاث كان دور المحرر الأدبي، سواء في الصحافة أو دور النشر، لا يتجاوز في أفضل أحواله دور المصحح اللغوي. لكن، ما إن شاركتُ عام 2012 في “برنامج الكتابة الإبداعية العالمي-International Writing Program” في جامعة “أيوا -The University of Iowa” الأمريكية، ولاحقاً طوال سنوات دراستي العليا لتخصص الكتابة الإبداعية في جامعة “كنغستون لندن-Kingston University London”، حتى انكشفت على أهمية دور المحرر بشكل عام، والمحرر الأدبي بشكل خاص.
يحتل المحرر الأدبي لدى الناشر الغربي، والأمريكي، والياباني مرتبة مهمة، فهو صلة الدار بإبداع الكاتب من جهة، وهو عين وبوصلة الناشر لما يحتاجه سوق النشر من جهة ثانية، ولأن مهمته بالغة الدقة والأهمية، فأن المحرر الأدبي، ليس مصححاً لغوياً، لكنه إلى جانب إلمامه التام بأصول اللغة نحواً وصرفاً، فأنه مُلم بعوالم وأسس الجنس الأدبي الذي يعمل به، سواء كان مسرحاً أو شعراً أو قصة قصيرة أو رواية، وأخيراً هو خبير بسوق النشر وذائقة القارئ، ولأنه يمارس جميع هذه المهام وغيرها، فان له مكانة مرموقة على مستوى السلم الوظيفي أو المردود المالي.
سوق تجارة الكتاب في الغرب وأمريكا سوق كبيرة ومتنوعة ورائجة، تخوض في منافسة شديدة، وبغية الصمود فان دور النشر الكبيرة -وبناء على معطيات عصرنا الراهن، من مواقع شبكة الإنترنت، ومحركات بحث، ومواقع تواصل اجتماعي- أصبحت شركات تجارية كبرى عابرة للقارات، يشكّل العمل الإبداعي مادة لصناعتها، ولذا تتفنن في إتقان صنعته وتلميعه وتقديمه للقارئ كأجمل ما يكون.
المتابع لأمر الكتاب العربي، وبالرغم من الظرف العسير والمؤلم والدامي الذي تعيشه بعض الأقطار العربية، منذ ما اتُفق على تسميته بـ “الربيع العربي” يجد أن صناعة الكتاب تعيش انتعاشاً واضحاً، وليس أدل من حركة ومبيعات معارض الكتب العربية، بانتقال الناشر العربي من مدينة عربية إلى أخرى، للمشاركة فيما يزيد على واحد وعشرين معرضاً دولياً خلافاً للمعارض الأصغر التي لا تكاد تنقطع عن الانعقاد بين مكان وآخر.
معارض الكتب العربية الدولية صارت تنعقد بانتظام. طبيعة الورق والحرف والإخراج صار أفضل. زاد توزيع الكتاب العربي، وانتعشت كثيراً الجوائز الأدبية العربية ومعها أنعش المشهد الإبداعي والثقافي العربي، لكن الناشر العربي ظل بخيلاً حد العوز في التعاون، وتوظيف المحرر الأدبي المختص، والايعاز إليه ليقوم بدوره المحوري كما هو زميلة المحرر الأدبي الأجنبي.
تمرّ الكتابة الإبداعية بمراحل كثيرة؛ بدءاً بلمعة وتقليب الفكرة، عبوراً بالكتابة، وانتهاءً بالمراجعة. هذه المراحل تخصّ الكاتب وحده، لكن ما إن يصل إلى قناعته بإنجاز كتابه والدفع به إلى دار النشر، حتى تبدأ مرحلة جديدة بطلها المحرر الأدبي.
المحرر الأدبي الذي تتعدد مراحل علاقته بالنص الإبداعي، فالبداية تكون بتصحيح القواعد والإملاء وعلامات التنقيط والترقيم، فذائقة القارئ الغربي وخبرته الطويلة في القراءة، تحتّم على المحرر/الناشر أن يحترم هذه الذائقة وتلك الخبرة، وأن يقدّم له كتاباً خالياً من أي أخطاء إملائية ونحوية، وأن يكون -وفق نمط كتابه- يحافظ تماماً على جميع علامات التنقيط والترقيم بوصفها جزءاً أساسياً لا يتجزأ من النص الإبداعي.
بعد الانتهاء من هذه المرحلة تأتي المرحلة الثانية والتي تقوم على موازنة الوصف، والحوار في العمل الإبداعي وتحديداً في الرواية، فالكتاب الإبداعي يجب أن يحافظ على “سرعة تدفق-Pacing” حيويّة في مختلف المشاهد، فلا يصح أن يمرّ مشهد حيويٌّ وسريعٌ ولاهثٌ، ويعقبه مشهد هادئٌ وخالٍ من الإثارة، ولا يكاد يتحرك، مما يبعث الملل في نفسية المتلقي.
إن موازنة الوصف والحوار هو ما يضمن سرعة تدفق مبدعة قادرة على تشويق القارئ والاستحواذ على اهتمامه.
المرحلة الثالثة والنهائية من مراحل عمل المحرر الأدبي، تأتي فيما يسمى بالرسالة الكليّة للعمل، أو “The Message”، وهي قراءة متأنية يقوم بها المحرر الأدبي للعمل كقطعة فنية متجانسة، وذلك للوصول إلى الرسالة/ المبتغى الذي أراد الكاتب إيصاله إلى القارئ.
إن المحرر الأدبي إذ يقوم بالمرحلة الأولى لوحده، فأنه يشرك الكاتب في المرحلتين الثانية والثالثة، ويقوم بينهما حوار، ونقاش يوازن بين تجويد الإبداع وبين التأكيد على إيصال الكتاب بصيغة لافتة يتقبّلها القارئ ويُقبل عليها.
هناك كتّاب في الغرب يحرصون على إجراء كل التغيرات، وآخرون لا يلتفتون إلى الكتاب متى ما وصل إلى الناشر، وبين هذا وذاك يبقى الكاتب العربي وحيداً في مواجهة بخل وتقاعس الناشر العربي من جهة، وبين ذائقة جمهور التلقي المتطلّبة من جهة ثانية.
إن بعض الكتب، وتحديداً كتب الشباب بتجاربهم الغضة، وبالنظر إلى ما فيها من أخطاء لغوية ونحوية تفضح وتسيء للناشر أكثر بكثير مما تسيء للكاتب نفسه، فمتى يلتفت الناشر العربي إلى تجويد سلعته الأدبية بما يليق بالمبدع والناشر والقارئ؟