يعتبر الكاتب السوداني أمير تاج السر، من أبرز الأسماء الروائية على الساحة العربية حالياً، حيث اشتهر بالعديد من الأعمال المميزة، ومن بينها “مهر الصياح”، و”توترات القبطي”، و”العطر الفرنسي”، إضافة إلى “صائد اليرقات” التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) العام 2011 وترجمت إلى الإنجليزية والإيطالية، ورواية “366” التي أدرجت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2014.
وفي هذا الحوار مع “ناشر”، يحدثنا أمير تاج السر، عن رحلته في عالم الكتابة، وأسرار اهتمامه بهموم الإنسان العربي والأفريقي، ورأيه في الجوائز الأدبية، وعلاقته مع دور النشر.
* ربما لا يعرف كثير من الناس أن أمير تاج السر هو طبيب قبل أن يكون روائياً.. ما الذي جذبكم إلى عالم الكتابة؟
حقيقة، أنا مهتم بالأدب منذ كنت تلميذاً في المدرسة الابتدائية. كنت أكتب قصصاً بسيطة أقلّد بها كتب المغامرات التي أقرأها ذلك الحين، وحين انتقلت إلى المرحلة الإعدادية، كنت قارئاً جيّداً للكتب التي كان يجلبها والدي إلى البيت، وأيضاً تلك التي كنت أستعيرها من الأكشاك القريبة من المنزل، والمكتبات التي تعرفت إلى أصحابها.
كنا بمدينة الأبيض في غرب السودان، بحكم عمل والدي، حين كتبت أول قصيدة وكانت باللهجة العامية، رددتها وأنا أمشي في الطريق، خوفاً من نسيانها، ثم كتبتها على الورق، وأعطيتها إلى سكرتيرة والدي لتطبعها بالآلة الكاتبة، ووزعتها على زملائي في المدرسة الإعدادية، ثم كتبت واحدة أخرى، وهكذا في خلال عام واحد كان عدد من فناني مدينة الأبيض يغنون من كلماتي! عدنا بعد ذلك إلى مدينة بورتسودان، بلد النشأة الأولى، وهناك واصلت كتابة القصائد العامية، وأنا طالب بالثانوي، وأصبحت معروفاً لدى المغنيين وجمهور الغناء بقصائدي، التي رددها كثيرون، وحين سافرت للدراسة بمصر، تحولت إلى كتابة الفصحى، ونشرت في مجلات وصحف عديدة.
كنت أدرس الطب بحكم تفوقي الدراسي، لكني لم أنقطع عن القراءة الأدبية وكتابة الشعر حتى تخرجت، وكانت لي رواية واحدة اسمها “كرمكول”، كتبتها قبل التخرج، ونشرتها دار الغد المصرية، توقفت بعدها حوالي سبع سنوات، ثم عدت إلى كتابة الرواية، منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بعد اغترابي في قطر، لذلك كنت مؤسساً لأصبح كاتباً منذ البداية، وجاء الطب كمهنة، ولكنه لم يؤثر في تعاطيّ مع الأدب قط، كل نشاط كان يمضي في اتجاهه بسلاسة شديدة.
* هل يمكننا القول أنكم تعالجون الناس أيضاً من خلال الكلمات؟
ليس تماماً، فالقراءة للكتاب مسألة اختيارية كما تعرف، وبعض القراء حتى لهم آراؤهم في كتابة الكتاب، وبعضهم يتذوق كاتباً ولا يتذوق الآخر، وإن حدث ووجدت من يقرأ تجربتي، فحتماً عثر فيها على ما يهمه، أو يمنحه إحساساً بالمتعة. أما الطب والذهاب إلى الطبيب، فليس فيه خيار آخر، إن مرض الشخص يذهب إلى الطبيب ليتلقى العلاج، وهذا الطبيب المتاح، قد يكون أنا أو غيري، لكن في النهاية، كل طبيب يرى المرضى المضطرين لعيادته. أحياناً يأتيني أشخاص مرضى، بسمعتي ككاتب، وأجدهم ينشرحون كثيراً، مثل هؤلاء هم الذين يستفيدون من خبرتي كطبيب ومؤكد تبهجهم كتابتي. في النهاية لا بد من التوضيح أن كل شيء منفصل عن الآخر، فلا علاقة لأي مهنة بالكتابة أو الإبداع عموماً، هناك موسيقيون ورسامون وكتّاب وشعراء، يمارسون نشاطهم الإبداعي جنباً إلى جنب مع مهنتهم التي يعيشون منها.
* متى تجدون الوقت الكافي للكتابة؟
أنا نهاري، بمعنى أنني أكتب نهاراً ولا أقرب الكتابة ليلاً، مطلقاً. حين تكون لديّ كتابة روائية، بعد أن تكتمل الفكرة، وأعثر على بداية مناسبة، أبدأ الكتابة، وعادة من الثامنة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً، وحينها أحول مناوبات عملي إلى المساء، في العادة أكتب حوالي ألف كلمة في اليوم ولا أزيدها إلا نادراً، وطبعاً المسألة مهلكة، والوقت منتزع انتزاعاً، لكن لا حيلة ما دام الشخص مصاباً بهوس الكتابة، حقيقة أحس بتعب شديد وإرهاق كبير في أيام الكتابة، ولا يعتدل مزاجي إلا حين أنتهي من عملي، خاصة أنني من النوع الذي إن بدأ الكتابة، لا بد أن ينهيها، أي أكمل عملي بالكتابة اليومية، وإن حدث وانقطع العمل اليومي لأي سبب، فإنني أعاني لاسترجاع الحماس الكتاب، هكذا، وحين أنتهي من المراجعة، أرسل النص إلى الناشر حتى لا أعدل فيه مرة أخرى، وكما ترى توجد معاناة في الكتابة، وفي الوقت المقتطع لها، وفي كل ما يتعلّق بها من سفر ومشاركات ومقالات. لكن لحسن الحظ، فإن أشهر الكتابة الروائية معدودة في العام، ولا تستحوذ على العام كله.
* هل حقاً أن الكاتب يحتاج أجواءً خاصة لممارسة هوايته؟
مؤكد، لكل كاتب طقوسه وممارساته أثناء الكتابة وحتى المكان الذي يكتب فيه، والوقت الذي يمتلئ فيه بالإيحاءات. طقوسي سهلة كما قلت لك، وأكتب في مكان عام محاطاً بالضجة لكنني لا أنتبه لها. هناك من يكتب في غرف مغلقة، ومن يكتب في المقاهي، ومن يكتب آخر الليل، ومن يكتب وهو يدخن بجنون، أنا الآن لا أدخن وأكتب بتشنج كبير، وفي الركن الضاج الذي حدثتك عنه، إنه مكان في فندق متوسط، كتبت فيه معظم أعمالي.
* لا تخلو أعمالكم من ملاحقة هموم الإنسان.. وخاصة الإنسان الأفريقي، لماذا كل هذا الاهتمام؟
ولمن نكتب إذاً، إن لم نكتب عن هموم شعوبنا؟! المواطن الأفريقي والعربي يعاني بشدة في حياته اليومية، ونحن ننقل المعاماة، مجسدة بشخصيات نعرفها. ونحن السودانيون خاصة نمتلك جواً عربيا وآخر أفريقياً، ولذلك يمكننا كتابة أشياء أخرى غير التي يكتبها العرب. لقد صُنّفت بعد ترجمة روايتي “إيبولا ٧٦” إلى الإنجليزية، بوصفي كاتباً أفريقياً، وكانوا على حق، فالرواية تدور أحداثها في الكونغو وجنوب السودان، وهذا جو أفريقي، عندي أعمال أخرى تحمل هماً من هنا وهماً من هناك مثل “رعشات الجنوب” و”مهر الصياح”، وعندي أعمال عربية خالصة مثل “صائد اليرقات” و”العطر الفرنسي”، وهكذا، لكن المعاناة اليومية، والمزمنة حاضرة في كل الأعمال.
* لاحظنا تنقلكم بين أكثر من دار نشر.. هل الأمر مرتبط بالتوزيع أم بالمال أم بأمور أخرى؟
نعم، نشرت في دور نشر متعددة، والحقيقة معظم الدور التي تعاملت معها تحترمني وتحترم وجود ككاتب، وأيضاً حقوقي، وهناك دور لا تنتبه إلى مسألة الحقوق. بالنسبة لي المسألة هي استجابات متعددة لناشرين يودون أن ينشروا لي، ليس أكثر، فالتوزيع جيّد في كل الأحوال، وكل من تعاملت معهم حتى الآن، اهتموا بتجربتي ووزعوها جيّداً. شخصياً أميل الآن للنشر في دار الساقي، وهي دار عملاقة، ومهتمة كثيراً بأعمالي، وتوجد الدار العربية للعلوم، وضفاف، ودار نشر إماراتية حديثة هي مداد، تثبت أنها في الطريق الصحيح، وتبنت الآن نشر الأعمال الكاملة، على مراحل أو في أجزاء.
* الكتابة.. هل هي فطرة أم تدريب؟ وهل يمكن لأي شخص أن يكون كاتباً؟
الكتابة أولاً هي موهبة، تمت تنميتها بالقراءة الكثيرة، والتدريب عليها، بمعنى أن الكاتب الذي يكتشف أنه كاتب في أي سن، عليه أن يحاول اكتشاف نتاج من سبقوه قبل أن يبدأ الكتابة، أنا فعلت ذلك، وظللت زمناً أقرأ الرواية قبل أن أتجرأ وأكتبها، بعكس كثير من كتاب اليوم الذين يسعون للقطيعة مع كتابة من سبقوهم، ويكتبون بلا جذور. وحتى عهد قريب كنت أظن أن الكتابة هي الموهبة التي تمت تنميتها فقط، ثم اكتشفت أن الذين يملكون استعداداً للكتابة، حتى لو لم يكونوا موهوبين، يمكن مساعدتهم في ورش كتابية، وقد أشرفت على ورش في أبو ظبي، خرج منها كتّاب رائعون، والآن انتهينا من ورشة رائعة مع كتارا في قطر، كنت مشرفاً عليها وخرجنا بإثني عشر نص رائع، عبارة عن فصول من روايات استفاد كتابها من المساعدة والتدريب، وسننشر هذه الفصول أو النصوص في كتاب قريباً بالعربية والإنجليزية.
* كيف تقيّمون حالة الرواية العربية اليوم؟
مثل حالة أي شيء آخر، فيها ما يبهج، وما يحبط، هناك كتاب جيّدون شقوا طريقهم بنجاح وآخرون يكتبون هكذا بلا دراية. نحن نملك الآن كماً هائلاً من الروايات، نرى آلاف الروائيين يخرجون كل يوم، ودور النشر تطبع بلا أي مشكلة. أعتقد أن الأمر يدعو للتساؤل، ويطرح سؤالاً مهماً: هل انتهى كل نوع من الإبداع، لتتخذ الكتابة الروائية مهنة، بهذه الشراسة؟، كما قلت نحتاج لتأمل، ونتمنى أن لا تموت الرواية، أو تحتضر كما حدث للشعر، الذي مرض بشدة منذ سنوات، وما عاد حتى الشعراء الحقيقيون يكتبونه.
* ما رأيكم بالجوائز الأدبية.. هل الجائزة هي من تصنع الروائي الجيّد أم العكس؟
الجوائز مكسب للكتابة العربية، وكلما تعددت، ربحنا أكثر. البوكر، كتارا، الشيخ زايد، وجوائز في مصر، والأردن، والجزائر، وغيرها، كلها تصب في مصلحة الكتّاب، الذين لا يستفيدون من إبداعهم شيئاً. الجوائز عموماً مهمة كما أسلفت، لكنها لا تصنع كاتباً، إن لم يكن موهوباً، ولا تلغي كاتباً إن كان موهوباً ولم يحصل عليها. فقط تشجع على المضي في الكتابة، للرابح والخاسر معاً.
* هناك كم كبير من الأسماء الروائية على الساحة العربية اليوم.. ولكن بالمقابل قلة من يحظون بالانتشار العربي والعالمي.. لماذا؟
بالنسبة للانتشار العربي، فكثيرون منتشرون عربياً، كل من قضى زمناً على سكة الكتابة، له جمهوره الذي يحرص على قراءته ومتابعته، وهناك مبتدئون، اشتهروا وأصبح لهم جمهورهم. أما بالنسبة للعالم، فمنا من ترجم للغات عدة، ووجد قراء مختلفين ومنا من لم يترجم، وهنا لا دخل لجودة الكتابة في الأمر، هي حظوظ في النهاية. أنا شخصياً ترجمت أعمالي للغات كثيرة، وعندي أعمال نجحت مثل “العطر الفرنسي”، و”إيبولا ٧٦”، و”صائد اليرقات”، وأعمال مهمة أخرى لم تنجح.