“الفضاء الالكتروني أضاف إلى تجربتي بعداً معرفياً سهل المنال”
الأردن – إبراهيم العامري
يفتح الروائي الأردني – من أصل فلسطيني- الباب كاملاً على محاور تجربته الروائية، ويستعرض جملة من الملفات العالقة في المشهد الثقافي العربي، فيتوقف عند دور المثقف من مجمل المتغيرات التي تعصف بالمنطقة، ويقيّم تأثير الكتاب في المجتمعات العربية، ودوره كوعاء معرفي أزلي.
ويضيء ناجي في حديثه عن تجربته الإبداعية على أهم الإشكاليات التي تواجه حركة الإبداع العربي اليوم، سواء المتعلقة بالجوائز العربية، أو تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى دور الرواية في نقل اليومي والمعاش وتحويله إلى تجارب إنسانية تتجاوز الزمان والمكان وتتحول إلى شواغل فكرية يواجهها الإنسان المعاصر يوميا
يقدم ناجي كل ذلك في الحوار التالي الخالص لـ “ناشر”:
لا شك أن منطقتنا العربية هي مساحة شاسعة للصراع وظهور قوى ظلامية متطرفة تهوي بمطرقتها على جوهر المفردات الحياتية وخصوصا الثقافية، برأيك ما الدور الذي يترتب على الناشر والكاتب في هذا الزمن من دور وما السبل الإجرائية التي يمكن للحكومات انتهاجها للانتصار في هذه المعركة؟
الثقافة هي جوهر الصراع، والهزيمة غير مسموح بها في مثل هذا الصراع لأنها ستشكل النهاية الحقيقية لحضارتنا ووجودنا، ومن يتعامل مع هذا الصراع بشيء من الاستخفاف يكون شريكا في إضعاف جبهات التنوير والثقافة المدنية التي تتضمن الحلول الناجعة للمآزق العربية. وبالطبع لن يغيب عني أن التطرف لا يتمثل فقط في تلك التنظيمات والمجموعات المحاربة، إنما هو كامن في قلب الثقافة المجتمعية التي تبدو مهيأة للتحريض واعتناق التأويلات المتعسفة للنصوص بسبب افتقار هذه الثقافة للبناءات والتحصينات المعرفية .
الكتاب هو واحد من الأدوات المعرفية بالغة الأهمية، ولكن عن أي كتاب نتحدث ونحن نشهد كل يوم، ذلك التوالد غير المقدس للكتب القائمة على خرافات القبور وعذاباتها ونتاجات متعهدي الكتب الصفراء التي تعاضد سابقتها.
يكفي أن تتأمل معارض الكتب في عالمنا العربي لتكتشف أن ما يزيد على 80% من معروضاتها تنتمي إلى تلك الخرافات والتصنيفات ويتم عرضها برعايات رسمية ويسهم في ترويجها ناشرون لا هم لهم سوى الربح حتى لو على حساب الأوطان.
كيف يعرف جمال ناجي المكان، وكيف طرح ما عاشه من أمكنة وما صنعه في ذاكرته في روايته؟
المكان ليس سوى أداة يستخدمها الزمان للتعبير عن سيرورته، الحقيقة الأبعد في الوجود هي الزمان وليست المكان، هذا يقودني إلى التشكيك في الثنائية التقليدية (الزمان والمكان) من حيث أهمية كل منهما. في كل الأحوال فأنا أتعامل مع المكان في رواياتي استنادا إلى هذا الفهم الذي يوظف المكان بوصفه منصة في طريق الزمان. ليس مهما ما إذا أخضع النقاد حضور المكان في رواياتي إلى الفهم التقليدي الذي يحيله إلى ثيمة أو إلى بطل، ما يهمني أنني منحاز إلى جبروت الزمان وسطوته الماحقة.
الرواية العربية ما تزال تعاني من سطوة طبيعية للرواية الغربية والروسية وحديثا اللاتينية، هل تعاني الرواية العربية من حالة تقليد واستيراد لشكلها وفحواها حاليا أم أن الرواية العربية تنتج ما يفيض عن فعل العولمة بهوية لا تشبه كتابها؟
الروائي العربي ليس معزولا عن الرواية العالمية ولا يجوز أن يكون كذلك، فهو قارئ بالضرورة، ولا يمكن للكاتب القارئ أيا كانت جنسيته أو قارته التي يعيش فيها إلا أن يتأثر بما يقرأ ، هذا التأثر لا يعد تقليدا إنما هو نوع من الاستفادة المشروعة، على أن لا تتخذ سمة النسخ الأسلوبي لكاتب بعينه، وبالطبع ثمة كتاب أوروبيون ولاتينيون واسيويون استفادوا من المنجز الروائي العربي الذي وصلهم، ونحن لا نستطيع وصف كاتب أوروبي استفاد من ألف ليلة وليلة بأنه مقلد لها، هي مسألة تفاعل بين الثقافات، وكلنا شركاء في تجارب العيش على هذه الأرض، ولكل إسهاماته وإبداعاته التي تدفع الحضارة الإنسانية إلى الأمام وشخصيا ليس لدي شك في أنني وزملائي الروائيون العرب أسهمنا في مسار الحياة الإنسانية، كما ليس لدي ذرة من إحساس بتفوق الآخر إبداعيا علينا ، ثمة تفوق تقني وإعلامي وقرائي أدى إلى انتشار أوسع لروايات أجنبية ما كان لها أن تحظى بكل ذلك الانتشار لو ولدت في بيئات لا تقرأ، كالبيئة العربية .
ظهر مؤخرا حالة جديدة من الجوائز الأدبية كمّاً ونوعاً والمتابع لمسيرة الساحة العربية يجد تفاوتاً في أحقيّة من يحصدون الجوائز هل تضمن لجان التنظيم شفافية حكّام جوائزها وحالة النقد التي تمارسها النخب المثقفة عليها؟
أسميها لعنة الجوائز على الرغم من أنني لا أقاطعها وأتقدم لها وحصلت على بعضها، إنما هي لعنة أدت إلى ما يمكن تسميته بـ “الانفجار الروائي”، بحيث صار الشاعر والناقد والقاص والمسرحي ومن لم يكتب في حياته، روائيا باحثا عن الجوائز.
هذا الوضع أدى إلى ظهور موجة من الروايات التي لا تستحق هذا المسمى، مع التنويه الى ظهور عدد قليل من الروايات التي تستحق الاهتمام والمتابعة.
في التحكيم ثمة مزاج عام يتحكم أحيانا في اختيار هذه الرواية او تلك، وثمة أحكام موضوعية وأخرى تندرج تحت عنوان الفساد دون التعرض إلى التفاصيل، أيضا تلعب الجغرافيا دورها في حالات كثيرة.
كلنا نبحث عن النزاهة، لكن المشكلة هي في النزاهة ذاتها، لأنها مركب ضعيف يمكن استغلاله واستثماره وتأويل مقاصده.
ثمة انتصار حقيقي للقصة القصيرة في المسيرة الأدبية لجمال ناجي الذي لم يبدأ قاصا ثم يتحول روائيا كما رسخ كثير من الكتاب العرب، وأعلوا من فكرة أن القصة فن تدريبي للرواية من وجهة نظرك، ما المسافة الفاصلة بين هذين الفنين السرديين هل هو مقدار الدهشة المركّزة في القصة، أم التفاصيل المسترسلة في الرواية؟
بدأت الكتابة قبل أربعين عاماً، بدأت روائياً وكتبت القصة القصيرة بعد ثلاث روايات، القاسم المشترك بين القصة والرواية هو السرد، لكنه ليس قاسماً مشتركاً أعظمها برأيي خصوصاً بعد التحولات التي طرأت على أساليب الكتابة الروائية والقصصية.
بين الرواية والقصة مسافات شاسعة لا تفسر في إطار الطول والقصر وأعداد الكلمات، إنما عبر تجربة الجمع بين القصة والرواية أوجدت لدي فهما ربما يكون مختلفا عما هو متداول إزاء هذين النوعين الإبداعية ، الفهم الذي يرتكز إلى طول النص أو قِصره ، لا إلى خصوصيته أو طبيعته من حيث: كثافته وتوظيفه للحدث المشحون واللغة المتنصلة من كل الزوائد في القصة القصيرة ، وتمدده واعتماده على جملة من العناصر المتواشجة في الرواية، سواء على مستوى تصميم وتوالد الشخوص والأحداث، أم على مستوى علاقاتها مع الزمان والمكان اللذان يشكلان عنصران أساسيان في الرواية .
يضاف إلى هذا، أن الرواية تحتوي على ما يمكن تسميته بزراعة بذور أحداث وشخصيات تنمو وتكبر وتعمر، وربما تموت لتولد بدائل لها، وهو ما لا نجده في القصة القصيرة، من دون إغفال الاختلافات النوعية والشكلية بين الأدوات المستخدمة في تشييد كل من المعمارين القصصي والروائي.اللافت أن بعضا من كتاب القصة يرون أنها تمرين يسبق كتابة الرواية. الأمرُ ذاتُه ينطبق على الروائي الذي يكتب القصة من دون امتلاك أدواتها، معتقدا أنها أمر مقدور عليه لمن استطاع كتابة ما هو أكبر منها (الرواية)، حتى أن بعض من خاضوا هتين التجربتين سجلوا فشلا ذريعا، لأنهم رأوا في القصة ” فضلة ” رواية أو ملخص أحداث، وفي الرواية توسع أفقي واختلاق لأحداث لا مكان لها إلا في القصة القصيرة!
محترفو كتابة القصة والرواية لا يقعون في مصائد هذا التسطيح، لكن الكثيرين من القراء والكتاب ليسوا محصنين ضد هذا الفهم المتعسف، ومن هنا تبرز الحاجة إلى فك الارتباط التقليدي بين القصة والرواية، مع وضع ما يكفي من الخطوط التي تفصلُهما عن بعضهما، بمنأى عن التأويلات التي تجد في عناصر السرد، أو غزارة الصفحات أو محدوديتها، مقاييس تصلح لتحديد ما إذا كان النص روائيَ التابعية أم قصصياً.
الظهور القوي لمنصات التواصل الاجتماعي صنع عالما موازيا يتسامى أو ينحدر مع العالم الواقعي أعلى من قيمة أدباء وأهمل بعضهم أنتج جيلا من الكتاب المكررين وخدم مبدعين حقيقيين، برأي الأديب جمال ناجي -الذي ينتمي لجيل مخضرم عايش الورقي والالكتروني- ما الذي أضافه هذا الفضاء لك وما الذي تفتقده في زمن سابق؟
لا أستطيع تجاهل الدور الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي وإن كان هذا الدور بحاجة الى نقاشات وحوارات مطولة حول إيجابياته وسلبياته وهذا موضوع آخر.
الفضاء الالكتروني بشكل عام أضاف إلى تجربتي بعدا معرفيا سهل المنال ومن الظلم أن اتنكر لهذه الحقيقة، فضلا عن أنه سهل علي عملية الكتابة، فأنا أكتب مباشرة على الجهاز دون المرور في مرحلة القلم والورقة وهذا رائع، وثمة القراءات الإلكترونية العابرة للقارات، تلك التي استفادت منها رواياتي التي أصدرتها، لكني غير قادر على مجاراة وسائل التواصل الاجتماعي لأنها تمتص وقتي وتأتي على حساب الجانب المعرفي ووقت الكتابة.
المبدع لا يشارك في البناء الحقيقي في المجتمعات العربية وتعتبر الوزارات المعنية في الثقافة في جل البلدان العربية وزارات شكلية أو تمثيلية وفي احيان كثيرة كمالية ما الذي تود قوله في معرض الحديث عن هذا؟
يقع هذا في سياق المناكفات التاريخية بين الثقافي والسياسي، فمن يقود المؤسسات الرسمية هم السياسيون لا المثقفون، والسياسي العربي إقصائي بطبعه، يريد المثقف شريكاً له في النضال من أجل التحرر مثلا، وعند إنجاز المهمة التي يدفع المثقف الجزء الأكبر من فاتورتها، يستفرد السياسي بكل شيء ويقصي الثقافي باعتباره ضميراً ورقيباً أخلاقياً على أداء السياسي. هكذا تتراجع الثقافة، وهكذا تتخلف الدول والمجتمعات.