شوقي بن حسين – تونس
ثمة أحداث سياسية تتحوّل إلى ثقب أسود يبتلع كل ما حوله، حيث تتجه كل الأنظار والأضواء – لفترة ما – إليها فيبدو أي حديث خارجها نشازاً؛ وهو ما ينطبق على أحداث مثل الحروب أو الثورات أو الانقلابات أو العمليات الإرهابية الكبرى.
ولا يغيب هذا المناخ عن الناشرين، فالكتاب ليس جزيرة معزولة عن الأحداث العامة، وعادة ما تهيّئ هذه الظروف حالة تقبّلٍ لفئة من المؤلفات والعناوين “المثيرة”، الأمر الذي يفتح سوقاً “موسمية” تحرص دور النشر على اقتناص ثمارها.
هزّات عنيفة عاشها العالم العربي في الأعوام الأخيرة، ليس أقلّها ما حصل في عام 2011 من تتابع الاضطرابات في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، واشتعال المنطقة بأعمال العنف (سوريا والعراق مع داعش)، ثم انتقلت دوائره إلى أوروبا أيضاً، حتى بات الحدث يتولّد في أحداث كثيرة، وتدعو إليه قراءات متنوّعة في مجالات كثيرة من الدراسات السياسية والاجتماعية إلى الروايات التي تبدو خيالاً منسوجاً، لكنها تعيد القارئ إلى معترك الأحداث الواقعية.
يمكن أن نرى في عالم النشر مرآة عاكسة لكل ذلك، غير أنها مرآة محكومة بمعطيات عديدة مثل مساحة الحريات، والمادة التي يصنعها الكُتّاب ويقدّمونها، والأمزجة العامة في تلك اللحظات التاريخيّة للشعوب أو للسياق العالمي.
تصفية حسابات في المطبعة
كان 2011، عام انتقال خاص في تونس. إذ وجدت انفتاحاً في النشر لم تعرفه سابقاً مع سقوط كثير من الرقابات المعنوية، أو تلك التي تفرضها قوانين مكبّلة، سواءً تلك المتعلقة بحقوق التسجيل أو الطباعة أو التوزيع، أو غيرها، فما الذي عكسه هذا الانتقال؟
لم تمضِ سوى أيام قليلة على مغادرة زين العابدين بن علي الحكم حتى ظهرت رواية “سنوات البروستاتا” (منشورات عربيا) للكاتب الصحفي الصافي سعيد؛ عملٌ بدا وأنه كُتب منذ أعوام على الأرجح، وقد وجد فسحة الظهور مع الثورة، خصوصاً وأنه يعيد تركيب سيرة ثاني رؤساء تونس، ويتّجه نحو تفاصيل حياته الشخصية وخبايا القصر الرئاسي.
في الرواية أيضاً سرعان ما قفزت إلى الواجهة “برج الرومي” (منشورات كارم الشريف) لسمير ساسي، والتي فتحت أبواب “أدب السجون” على مصراعيه، ليتحول بعدها إلى موضة روائية بامتياز، وهو أمر نجد مثيله تقريباً في مصر وسوريا وليبيا في 2011، وفي العراق بعد 2003.
مع هذه الأعمال يمكننا التقاط أمر ذي دلالة وهو إعادة إصدار كتابي “صديقنا الجنرال بن علي” لنيكولا بو وجان بيار توكوا و”حاكمة قرطاج” لنيكولا بو وكاترين غراسييه، إذ حظي كلاهما بترجمة عربية، وقفزا منذ صدورهما إلى أعلى مراتب المبيعات، خصوصاً وأن العملين كانا في سنوات حكم بن علي أشهر من نار على علم في مواقع التواصل الاجتماعي، وإن مُنع وصولهما إلى مكتبات تونس.
في محصلة ذلك العام، تشير إحصاءات “المكتبة الوطنية التونسية” إلى أن عام 2011 وحده شهد إصدار 103 كتب لها علاقة بحدث الثورة، خيطها الناظم هو تصفية الحساب مع الماضي سواءً بفضح كواليس السياسة زمن ابن علي وممارساته، أو بتسليط الضوء على شخصيته، أو التنظير لما بعده.
دوّامات الحدث السياسي
يمكن أن نجد نسخة مصرية وأخرى ليبية لعام 2011 التونسي على مستوى النشر، مع حفظ الفروقات التي توجدها خصائص كل سوق كتاب في هذه البلدان وحجمها وسابقاتها، غير أن ميل الناشرين إلى الحدث يمكن تفحّصه في مصر عند منعطف آخر، هو 2013، حيث استعاد الجيش السلطة من الإخوان المسلمين، بعد صعود محمد مرسي إلى الحكم في 2012.
2012 و2013، هما عامان متناقضان على مستوى النشر في مصر، في الأول برزت الدعاية للفكر الإخواني وفي الثاني برز نقيضه. عامان نتلمّس فيهما في المقابل هبوط الحديث عن “ثورة 25 يناير” وأحداث التحرير التي مثّلت الشاغل الأبرز في الحياة الثقافية المصرية.
ما بعد يوليو 2013، تتابع إصدار عناوين مثل “الثورة التائهة: صراع الخوذة واللحية والميدان” (منشورات “مركز المحروسة”) لعبد العظيم حمّاد، و”رئيس الفرص الضائعة: مرسي بين مصر والجماعة” (دار اكتب) لياسر ثابت، و”جنة الإخوان: رحلة الخروج من الجماعة” لسامح فايز، وهي أعمال تكشف عناوينها عن توجّهاتها، مع هيمنة الشهادات والتحليلات والمقاربات السياسية في خيارات الناشرين المصريين، وهو أمر نجده قد ترك آثاره في الرواية أيضاً، مثل “المرشد” (الدار المصرية اللبنانية) لأشرف العشماوي.
هذه الفترة شهدت موجة إصدارات ليوسف زيدان، والذي بدا أن صراع مؤسسات الدولة مع الجماعة الإرهابية قد أتاحت له مناخاً ملائماً لطروحاته، فصدرت ثلاثة من أعماله في 2013 (“دوّامات التديّن”، و”متاهات الوهم”، و”فقه الثورة”)، منها ما هو جديد ومنها ما أعيد طبعه عن “دار الشروق”.
الشتات السوري
المنعطفات قد لا تكون مجرّد “صرعة سوق” كما رأينا في الحالتين التونسية والمصرية، إذ سرعان ما تهدأ بتتالي الأحداث وتلوّنها، فالحالة السورية عرفت فيها الكتابة حول ما بعد 2011 انتظاماً واضحاً، تجلّى في بعض الكتابات التي تعود إلى تفكيك مرحلة “الأسد” (الأب والابن)، وأخرى تتابع مستجدات الأزمة، التي عبّر عنها الروائي نبيل سليمان في أحد تعليقاته بأن “الجثث باتت تحتل الروايات السورية بعد الواقع”.
لكن، في خصوص الكتابة السورية، لا بد من الإشارة إلى معطى أساسياً وهو أنه لم يعد ثمة فضاء نشر سوري، بل تمر كل هذه الأعمال عبر بوابات أخرى، تظل الساحة اللبنانية أبرزها، ثم المصرية بالإضافة إلى تعاطي دور نشر خليجية وأوروبية كثيرة مع الكاتب والحدث السوريين.
الرواية كانت الفضاء الأخصب لجملة هذه المتغيّرات، إذ اتخذت تنويعات تتماشى مع الموضوع المطروح فازدهرت الرواية الشهادة، والرواية القائمة على الأدوات الصحافية، ورواية المخابرات وغيرها، وهو ما نلمسه في أعمال مثل “السوريون الأعداء” لفواز حداد، و”الذين مسّهم السحر” لروزا ياسين حسن، و”موسم سقوط الفراشات” لعتاب أحمد شبيب، و”اختبار الندم” لخليل صويلح، و”الموت عمل شاق” لخالد خليفة.
غير أن هذا النشاط في النشر الموازي للأزمة السورية لا ينحصر في العالم العربي، إذ نرى أن الكتّاب السوريين تسلّطت عليهم الأضواء بشكل لافت في البلدان الأوروبية التي استقرّوا فيها، مثل رفيق شامي وياسين الحاج صالح في ألمانيا. بل إن الموضوع السوري كان أيضاً مجال اهتمام كتّاب فرنسيين مثل نتالي بونتان في كتاب “أناس من دمشق”، دون أن ننسى تحوّل تدمر إلى “مأساة” أوروبية استنفر المؤرّخون والروائيون والشعراء للحديث عنها.
لحظة داعش
الحدث السوري أنتج بالإضافة إلى تناوله كسرديّة مكتفية بذاتها، “موضة” كتابة أخرى تمثّلت في ظاهرة “داعش”، التي راكمت في ظرف سنتين وأكثر بقليل ما يؤثث مكتبة، وهو ما ينضوي في – نفس الوقت – تحت سياسات رسمية في محاربة هذه التيارات، إضافة إلى الأعمال التي تأتي ضمن منطق ما يطلبه القرّاء، خاصة بعد التكريس الإعلامي لما تقترفه هذه التنظيمات من أعمال إرهابية في سوريا والعراق.
ومن أبرز هذه الأعمالٍ: “خلافة داعش” لهيثم مناع، و”داعش إلى أين؟ جهاديو ما بعد القاعدة” لفؤاد جرجس، و”داعش السكين التي تذبح الإسلام” لإبراهيم ناجح، و”تفكيك داعش” لمضر آل حميّد، و”القصة الكاملة لخوارج عصرنا القاعدة.. داعش وأخواتها” لإبراهيم بن صالح المحيمد، و”الدولة الإسلامية: الجذور، التوحّش، المستقبل” لعبد الباري عطوان، و”في طريق الأذى: من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش” للإعلامي المصري يسري فودة.
من جهة أخرى، يمكن أن نلاحظ كيف أتى الروائي السوري سليم بركات بعالمه العجائبي ليكتب “سبايا سنجار”، وهو مؤشّر إضافي عن تحريك الأحداث لطبقة أخرى من طبقات صناعة الكتاب وهي تطويع العوالم الإبداعية لها، ما ينتج ضغطاً آخر على الناشرين للاندماج في موجة ما. وهذا التناول الروائي يمكن ملاحظته أيضاً في عمل يحتل قائمة الأكثر مبيعاً في تونس، حيث يصوغ الصحفي هادي يحمد تصريحات أحد المنتمين السابقين لتنظيم داعش في رواية “كنتُ من الرقة”.
وبعد؟
قد تبدو هذه المفترقات السياسية كمحرّك لصناعة الكتاب، ولكن ذلك لا يبدو أكثر من جانب ظاهري من المسألة، فهل يستفيد قطاع النشر من هذا التعامل البراغماتي مع الأحداث؟ أم أن هذا التعامل يُحدث إشباعاً يدفع ثمنه هذا القطاع في مراحل أخرى؟
لو أننا وضعنا قائمة بالكتب المرتبطة بحدث ما، لوجدنا أن أقلّها يمكن أن يظل مطلوباً بعد مرور “صرعة” الحدث الذي جاءت في سياقه، وكثيراً ما يحدث أن يلمس القارئ خفة صناعة الكتاب ويعمّم ذلك على منتجات دار نشر بعينها، وقد يبلغ التعميم كل ما يمكن أن يُقرأ.
من هنا، قد نتبيّن أكثر مسؤولية الناشر حيال ما يقدّمه لقرّائه، فالفرصة التي يمنحها تسلّط الأضواء حول حدث سياسي قد تتحوّل إلى هدية مسمومة بعد حين إذا لم يقم بدوره التحريري، وواجبه حيال أخلاقيات النشر بما تتضمنه من مراعاة المصداقية والذوق وغيرها.