جعفر العقيلي
حين أطلق الروائي إلياس فركوح مشروعه “دار أزمنة للنشر والتوزيع” في عمّان قبل نحو ربع قرن، كان قراره وليدَ مزيجٍ من التوق الذاتي والظرف الموضوعي اللذين تضافرا معاً، وأدّيا إلى انخراطه الكامل في عالم النشر.
قبل ذلك، عمل فركوح في الصحافة مدةً كانت كافية لأن يكتشفَ أنه ليس من أولئك “المخلوقين” لهذا الضرب من “الركض اليومي”، رغم أن الصحافة توفر عناصرَ من شأنها أن تُثري قصصه بالتفاصيل التي كان يلحظها في حياة عادية تعبّر على الأشياء بـ”حياد” وكأنها من المسلّمات!
ثمّ تنقّل فركوح بين أعمال عدة حاول العثور فيها على إمكاناته، وخرج منها “باحثاً عن ذاته” في صيغة توازن، إلى أن تعرّف إلى الشاعر طاهر رياض الذي كان يمتلك ترخيصاً لدار نشر باسم “منارات” أصدر من خلالها بضعة كتب معتمداً على علاقاته في سوريا عند اختياراته لها، حيث عاش طوال حياته قبل انتقاله إلى الأردن ليستقر فيه. كان إلياس آنذاك يبحث عن عمل يقنعه ويجعله يرضى عن نفسه، وكان طاهر بدوره، قد وجدَ في إلياس متحمّساً يشاركه الاهتمام بالكتاب قارئاً، وكاتباً، وناشراً منتقياً بالتالي.
وقد شكَّلَت تجربة “منارات”، رغم قِصَر عمرها، درساً ومدرسة في عالم النشر، بشهادة أكثر من ناشر صرّحوا بذلك بعد سنوات، منهم مجد حيدر صاحب “دار ورد” في سوريا، وخالد الناصري الطالع كـ”الصاروخ” في “دار المتوسط” في ميلانو. ولأسبابٍ شتّى، انفرط عقد “منارات” لتنتهي “مسيرتها” الخاطفة، رغم تميّزها المهني ونجاحها الثقافي.
وهكذا، كان لا بد من الخروج بـ”دار أزمنة” كما يقول إلياس مضيفاً: “في هذا المشروع أردتُ أن أكون نفسي؛ متوازناً واضحاً رابحاً لها، وإنْ عانيتُ وما زلتُ من أعبائه المالية”.
توصف “أزمنة” ليس بأنها دار نشر ثقافية فقط، بل بأنها صاحبة مشروع ثقافي أيضاً. وعند سؤال إلياس حول كيف تَحقّق لها ذلك، يقول: “أعتقد أن القول السائر الذي يشير إلى اكتساب الإناء الشفّاف لونَ الماء الذي في داخله، ينطبق على ما حدث ويحدث في دار أزمنة”. والإناء الشفَّاف هنا هو دار النشر، فيما يمثّل لونُ الماء في داخله إلياس فركوح، الذي يرى أن دار النشر، بالنسبة له، تمثيلٌ لأحد أبعاده الشخصية.
فكلمة “مشروع ثقافي” تتناسب، إلى حدّ ما، مع طموح إلياس الأوّل في أن يطرح “المغايرةَ” هدفاً ووسيلةَ في الوقت نفسه. مغايرة السائد من القِيَم والمعايير والمنطلقات التي أثبتت إفلاسها، إنْ على الصعيد الفكري، أو الثقافي، أو الأدبي/ الكِتابي، وقبل هذا وربما من خلاله، على الصعيد السياسي ورموزه المتآكلة تفكيراً أيديولوجياً، “وهذا، في حالة تحقُّق القليل منه بنشر مجموعة كتب تختارها أنت، تكون حفرتَ علامةً.. وأعلنتَ رؤيةً.. وترجمتَ موقفاً”.
ويؤكد إلياس أنه كان لا بدّ أن يكون مختلفاً عن سواه من الناشرين، أردنياً وعربياً، لأنه (ببساطة الأشياء وبديهياتها) “ليس هُم”، وما يريده في العُمق منه ليس ما يريدونه؛ مع ملاحظته المهمة أن الجميع يطْلقون “الأقوال العامة المعمّمة” نفسها حول الثقافة، والتنوير، والمبادئ، والارتقاء، وحرية التعبير، والارتفاع بمستوى الوعي المجتمعي، وسوى من تلك الشعارات التي أُفْرِغَت من مضامينها، ومُسِخَت على أيدي مُدّعيها!
عُرفت “أزمنة” باعتنائها بالأقلام المبدعة من الشباب، من خلال سلسلة “تباشير” التي يشير فركوح إلى أن فكرتها وُلدت وقتَ ولادة الدار نفسها تقريباً، حين لاحظ ما هو مشترك بين أصحاب الأقلام الجُدد من جهة، والدار من جهة أخرى؛ ألْا وهو: الافتقار إلى التمويل الكافي لطباعة كتب لا حظَّ لها على مستوى النجاح التجاري، كون كتّابها وكاتباتها ما زالوا “مغمورين”! غير أنّ هذه الحقيقة لم تضعه أمام حائط مسدود، إذ آمن بجدارة تلك النصوص بعد قراءته لها، فسعى نحو مشروع آخر تقدّم به إلى وزارة الثقافة الأردنية استند إلى ما يلي: هناك مخطوطات كثيرة متراكمة لدى الوزارة نالت الموافقة على نشرها، ومعظمها ذات طبيعة أكاديمية وبعدد صفحات كبير، لكنها لم تُتشر لعدم توفر المخصصات المالية لطباعتها ومكافأة أصحابها. وهذا يحدُّ من فعالية الوزارة في أداء دورها من جهة النشر وحصره في أضيق مجال. وللخروج من هذا المأزق، والتحرك بناءً على محدودية المخصصات (ولكن عبر إعادة النظر في كيفية إنفاقها)؛ طرح إلياس فكرة “الدعم” كالتالي: تغطّي الوزارة الجزء الأكبر من تكلفة الطباعة، والباقي يتكفّل به كلٌّ من الناشر والمؤلف، وبذلك تكون الوزارة قد تخففت من أعباء مالية كبيرة أعجزتها عن النشر المنتظم، وأتاحت المجال لظهور كتّاب جدد، وساعدت على نمو حركة النشر.
هكذا شقّت سلسلة “تباشير” طريقها في البداية، وقد نجحت لأنَّ “موجة” من الكتّاب والكاتبات تدفقت في وقت واحد، واستقبلتها دار أزمنة وقد آمنتْ بها.
كما اهتمت “أزمنة” بإصدار الكتب المترجمة؛ بخاصة من الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، وبات تَوجُّه الدار نحو الكتاب المترجم يتخذ لنفسه منحىً تصاعدياً لافتاً، إذ بلغ العدد 74 كتاباً حتى صيف 2017. أما كيفية اختيار الكتب؛ فهذا مرتبط بكمّ المعرفة التي يحوزها إلياس بما هو جديرٌ بالترجمة، أي مدى اطلاعه عمّا يُنشر في بلدان الثقافات الأخرى. وكذلك حالات الجذب التي تنتج عن الكتب/ والكتّاب الرائجة ضمن دوائر يثق بشهاداتها عنها.
في مسألة الاختيار –كما يرى إلياس- ثمّة بُعْدٌ شخصيّ عِماده الاطلاع والمعرفة، وكذلك اللجوء إلى مجموعة أصدقاء من مترجمين وسواهم من المطّلعين طالباً النُّصْحَ والمشورة وتلقي المقترحات. والحقّ أنّ عدداً من المترجمين، وبسببٍ من ثقتهم بإلياس وبالدار، لم يبخلوا عليه بترجمات مختارة كانت بمثابة “تقدمة كريمة” منهم! وهو يؤكد إنّ بوصلته عند الرسو على كتابٍ ما، تبدأ وتنتهي بـ: مقدار ما يحمل هذا الكتاب من تجديدٍ في مجاله، أو تنويرٍ في أفكاره، أو اجتراحاً في كتابته وفضاءات أسئلته؟
ولأن العمل في صناعة النشر يندرج ضمن الأعمال التجارية والاستثمارية، كان لا بد من السؤال عن عوائد “أزمنة”، وكم قصراً شيّد صاحبها من أرباحها! وهو سؤال جعل إلياس يضحك بمرارة، قبل أن يقول: “كلّما قاربتُ على الإنهاك المالي الخالص، وبلوغ نقطة التوقف وإغلاق الدار، وجدتني أتريّث، وأرفع سقف مديونيتها لدى البنك الذي أتعامل معه (راهناً عقار المكتب مقابل “تسهيلات بنكية”)، فأواصل هكذا بعنادي (غير التجاري) أبداً. وهذا يعني احتمال خسارة هذا العقار الصغير ذات يوم!”.
ويوضح أن السبب في هذا الوضع، هو تعامله مع “الكتاب الثقافي الجاد، ضيّق نطاق التوزيع والمطلوبية”، ولأنه ليس من “ناشري المقررات المباعة مسبقاً، أو محترفي عقد الصفقات الكبرى الذين يملكون رؤوس أموال كبرى”.
ويضيف أن المتابعين لإصدارات الدار هُم مَن يشيّدون “قصوراً” له قِوامها “أوهامُ الجَهَلَة بأرباح كبيرة تُجنى من حال النشر البائس”، وهم غالباً من فئة الكتّاب، الغارقين في أوهام مبيعات خيالية/ فانتازية لكتبهم البائرة! كتّاب يتظلمون كونهم “ضحايا” الناشرين “الجشعين، مصّاصي الدماء”، إلخ! وهذا “واقع مؤلم وجارح، بقدر ما هو مضحك بمرارة”.
ولأن علاقة الناشر مع المؤلفين ليست مريحة دائماً؛ فإن إلياس فركوح يتدبرها بالشفافية المطلقة وغالباً بالصراحة الجارحة. فهو لا يتحرج من رسم مستقبل كتابهم، ويضعهم في حقيقة ما يمكن أن يُباع في أحسن الأحوال، وينصحهم بالإقلال ما أمكن من عدد النسخ المطبوعة، ويبدد أوهامهم بخصوص معارض الكتب العربية، ويحاول قدر الإمكان إرضاء زهوهم بتصوير كتبهم معروضةً في جناح “أزمنة”، ليتاح لهم نشرها في حساباتهم وصفحاتهم على “الفيسبوك”!
وفيما يتعلّق بما يدعوه “سيرك” حفلات التوقيع والإشهار و”التهريج”؛ يقول إلياس: “هذه مسألة لا أساوم عليها. فليذهبوا بكتبهم إلى (هناك)، وليلتقطوا مئات الصور وينشروها كما شاءوا، و(يُشَيّروها) عند الصديقات والأصدقاء، فأنا لست شريكاً”.
لكن، إلى أي مدى يغلّب إلياس ذائقته على مصالح الدار عندما يتعلق الأمر بنشر كتاب متواضع فنياً. إلى أيّ الطرفين ينحاز: أخلاقيات المبدع أم سلوك التاجر؟
في الرد على هذا السؤال، يستعين إلياس بالمثل القائل “للضرورة أحكام”، مُقِرّاً بأنه يضطر لنشر كتب ليس مقتنعاً بقيمتها الفنيّة والأدبية، لكنها، في الوقت نفسه، ليست “مهلهلة” إلى حدّ رفضها. وهذا يطرح المرء من جديد مسألة باتت موضع مراجعة ونقد؛ ألْا وهي “تسديد الكتّاب تكاليف طباعة ونشر كتبهم”. ففركوح من الذين يمارسون هذه السياسة مضطراً، لمعرفته الأكيدة بأنّ مثل هذه الكتب لا حظّ لها في المبيع أصلاً. وإنْ بيع منها لسبب أو لآخر، فليس سوى عدد محدود لا يكفي لتغطية تكاليف الطباعة. ناهيك عن أنّ مصروفات المكتب الشهرية الثابتة، والمتصاعدة أيضاً، التي تطالبه بتدبّر مصادر لها.
ومن المعروف عن إلياس إشرافه بنفسه على تصميم الأغلفة، واختياره لوحاتها في الغالب.. وهو يتحدث عن هذا الجانب بقوله: “منذ بداية علاقتي بالكتاب، قارئاً له، كان الغلاف يشكّلُ واحدة من العلامات الدالّة عليه، المستحوذة على انتباهي.. ربما بسبب شَغفي المبكِّر بالفن. وكم كنتُ أمنّي نفسي بيومٍ ما أكونُ فيه مصمماً لغلاف كتابٍ أكتبه! فإذا كان الغلاف وتصميمه مهمة من مهمات الناشر (وهو كذلك فعلاً)، فهو متعة بالنسبة لي، أشتغل عليه بـمزاج وكأنه نصٌّ من نصوصي”.
أما تقييمه لتجربته في هذا المجال؛ فيستمدّه من مجمل الآراء التي وصلته، مباشرة أو عبر تعليقات المقبلين على منشورات الدار في المعارض، إذ “كانت تشهدُ على تميّز الأغلفة وأن لها هويتها الخاصة”.
وأخيراً؛ كيف ينظر الروائي إلياس فركوح، إلى تجربته ناشراً الآن؟! لو عاد ربع قرن إلى الوراء وكانت أمامه فرصة الاختيار مجدداً؛ هل كان سيفتح داراً للنشر؟
يقول بثقة: “على الأغلب نعم، لستُ تاجراً بطبعي، وأنفر من أن أكون موظفاً لدى سواي، وأحبّ النشر في تفاصيله كافة، رغم الخيبات التي أُصبتُ بها، وما أزال”.