كيف لنا أن نراقب أنفسنا الآن بعد مرور كل هذه السنوات على مجاز الربيع العربي؟ وكيف للذاكرة أن تتشكل في عقل من كان دائماً على هامش الحدث حتى وهو جوهره؟ سؤالان بارزان بقيا يلحان ببالي وأنا أتابع السردية البارعة التي قدمها الكاتب الأمريكي – الليبي هشام مطر في روايته الأخيرة “أصدقائي” والمترشحة حالياً ضمن القائمة الطويلة للبوكر العالمية 2024
تبدأ السردية من عقل “خالد عبد الهادي” وتبقى في عقله دائماً، نحن تتابع أفكاره، وتواليها وتداعيات الذاكرة أيضاً، فخالد المولود في بنغازي الليبية والخارج بكامل سذاجته الطفولية من عالم البحر المتوسط، يتعلم في “إدنبره” على بعد أميال كثيرة من ذلك المتوسط، سؤال الحرية وكيف لها أن تكون القيد الذي سيحبسه بعيداً عن فكرة العودة للوطن، بدافع الخوف أولاً ثم بدافع أسئلة أكبر منها بعد أن شارك في المظاهرات الاحتجاجية أمام السفارة الليبية في لندن على اعتقالات نظام القذافي لنشطاء ليبيين في بنغازي، وهي حادثة حقيقية حدثت في العام 1984 وأسفرت عن إصابة عدد من المتظاهرين الليبيين ومقتل شرطية بريطانية في العشرينات من عمرها آنذاك
هذا الحدث التاريخي الواقعي، يفتح بوابة المتخيل الراصد، على ما حدث لكل من أصيبوا في إطلاق النار ومنهم بطلنا “خالد” وصديقه الذي زامله أيضاً في الجامعة “مصطفى”، منذ تلك الحادثة وكيف تحولت حياة البطل بعدها بشدة، ليدرك أن فكرة الحرية هي جوهر محوري لا يرتبط بالصراخ المباشر فقط ولا الطلقات النارية، يطرح أيضاً خالد على نفسه سؤال العائلة والعلاقات المتصلة المبتورة بفعل المسافة الجغرافية، بين عالمين، وهذا الأسى الممتد بين ما كان من الممكن أن يكون لو أن هذه العائلة كانت في أي مكان آخر سوى ليبيا. و لا يقدم “هشام مطر” بعد كل هذه السنوات نقداً جوهرياً للربيع العربي ولعل في ذلك ذكاءً أيضاً، فلا أعلم إن كان من المنطقي والعقلاني ونحن لا زلنا في خضم تحولات تلك المرحلة المتواترة ، أن نقدم نقداً أدبيا للمرحلة، لكننا كما فعل “مطر” هنا لنا أن نرصد ما حدث للأشخاص حول ذلك الحدث وكيف ستأتي أجيال جديدة أخرى لها بعين الحياد أن تنقد الحدث واقعياً وبأمانة بعيداً عن التشنجات، ولعل هذا بالمناسبة ما جعل صوت الراوي دائماً هو ذلك الصوت الهادئ لشخص يتابع ذاكرته بعد تقادمها، ويسردها حفاظاً عليها من النسيان فقط، فلا شيء مما حدث يمكن تغييره الآن بعد إدراك الكثير من مواضع الخلل فيما أعقب الموجة الأولى من أحداث ٢٠١١ التي عرفت في ليبيا بثورة ١٧ فبراير.. ومن جديد؛ هناك حدث واقعي تاريخي وثقه من جديد “مطر” بجانبه الإنساني من خلال شخوصه.. دون أن تحتل تقريرية تلك الأحداث التاريخية حجماً أكبر من مساحة تحرك الشخوص بداخلها وهي تدفع ثمن التداعيات والاخفاقات في تحقيق المسار الأولي الذي نادت به موجات الربيع.
نأتي للنقطة الأهم في هذا العمل والتي يشير إليها عنوانه بكل بساطة وذكاء، الأصدقاء في حياة “خالد عبد الهادي”، وأبرزهم “حسام زوا” الذي لطالما كان بطل خالد الغامض والبعيد بعد أن استمع لقصه قصيرة “لحسام زوا ” يقرأها المذيع الليبي الشهير في إذاعة بي بي سي العربية “محمد مصطفى رمضان” ، تسرد فكرة الموت والتهتك البطيئين الذين يورثهما الخنوع، لا ينسى “خالدة القصة ولا ينسى “حسام” ، خصوصاً وأن المذيع الشهر يقتل بعدها ببضعة أسابيع في لندن ضمن حملة اغتيالات في لندن لمعارضي القذافي، وهو حدث واقعي آخر يشتبك بالمتخيل ببراعة، فهشام مطر يوثق مقتل المذيع الذي يفتح بوابة للحياة والصداقة بين خالد وحسام، اللذان يلتقيان أخيراً في باريس بعد ١٢ عاماً من مقتل “رمضان”، وتمتد بهما هذه الصداقة بين باريس ولندن حتى ثورة ٢٠١١ وما بعدها، صداقة فيها ما فيها ولها ما لها وعليها ما عليها ، لكنها رغم كل التناقضات بين الشخصيتين المحوريتين في العمل، تكشف عما تجمعه الغربة من أسى بين الشخوص وما تشذبه من اختلافات ليبقى شيء واحد فقط هو الصداقة والعاطفة الحقيقية في الحب اللا مشروط.. هذا أمر يرصده مطر أيضاً في علاقة الصداقة بين “خالد” و”رنا” اللبنانية؛ وكيف أنه رغم اختلاف الخلفيات والطبقات لا يسند خالداً في أحلك لحظات الهشاشة إلا “رنا” والعكس صحيح أيضاً.. وتسأل هل كان هذا ليتحقق لو أنهما التقيا في بلدهما الأم؟ ، على الجانب الآخر تمثل كل شخصية من الأصدقاء موقفاً من المواقف تجاه الارتباكات والفوضى والدماء في الشرق، وكيف أنها لا تتلاشى بمجرد أن تضع قدميك في جنة الغرب المتخيلة، بل هي ظلك، الذي يصبح مع الوقت أنت، كما أشار “مصطفى” الذي عاد إلى ليبيا مفتشا عن المكان الجديد ليكتشف أنه فقد جسده فصار ظلاً كاملاً، الأمر الذي يختصره في رسالة نصية لخالد الذي كان موقفه هنا التردد من فكرة ليبيا الجديدة بعد اندلاع الاشتباكات المسلحة بين الثوار والجيش النظامي ثم بين الجميع ، يقول مصطفى ” نحن ظلال، جميعنا هنا ظلال”
رغم أن التقنية السردية التي استخدمها “مطر” هنا هي تقنية بسيطة تعمد إلى وجهة نظر واحدة راصدة وتداعيات الذاكرة بتقنية الفلاش باك “لخالد عبد الهادي”، إلا أن العمل لا يخلو من التشويق، والسلاسة في متابعة الحدث، وحتى مع القفزات الزمنية الكثيرة، والأسماء والأحداث، فهو يمسك بخيوطه السردية بمهارة ولا يربكك في حشو زائد أو ممل، بل أن كل التأملات والاستطرادات مقدمة في فصول قصيرة عددها في 108 فصلاً كل فصل فيها لا يزيد عن ثمانية صفحات ولا يقل عن الصفحة في عدد صفحات الرواية التي امتدت على ٤٥٠ صفحة.. وهو ما يشعرك بالتخطيط الضمني المتقن لهيكل العمل، كما تجدر الإشارة هنا أيضا لحياة الإنسان الليبي وبيئته اليومية بين بنغازي ودرنه وغيرها من المدن، معمار البيوت، الأطباق اليومية.. الروائح وطقوس الحياة، التقاليد والأفكار، الحواجز الاجتماعية والعلاقات الأسرية وبعدها التاريخي المرتبط بما قبل الاستعمار الإيطالي لليبيا وأثناءه وما بعده، كلها تفاصيل حيوية مررها “مطر” دون أن يشعرك بأنها مقحمة بداخل الفصول، بل تأتي لتضيء لك وجه ليبيا اليومي الذي لا يعرف أكثرنا عنه الكثير، في ظل العزلة والغموض التي ارتبطت بفترة القذافي، كان فيها التركيز على كل تفاصيله بوعي وبلا وعي باعتباره الشكل النموذجي للإنسان الليبي.
بعد عدة أعمال قرأتها في رصد ليبيا أثناء وبعد الربيع العربي وثورة فبراير ٢٠١١ وصولا إلى مقتل القذافي منها “ليلة الريس الأخيرة “ لياسمينة خضرا و”بلاد القائد” لعلي المقري على سبيل المثال ، كان “هشام مطر ” هو الأبرع، ربما لأنه أخذ وقتاً في رصد البعد الزمني لما قبل وما بعد ٢٠١١ بسنوات دون أن يحاول رسم بورتريه فج وواضح للديكتاتور وشخصيته الكاريكاتورية التي أُشبعت تنظيرا ونقداً منذ مقتله، بل حافظ على وجوده الخفي والمخيف طوال صفحات العمل، وثانياً لأنه انحاز بشكل واضح لليبي بجوهرية ما مر فيه ولا زال، ولأنه لم يحاول أن يرصد الثورة بقدر ما حاول أن يرصد العلاقات الإنسانية الجوهرية في خضم فوضى الهجرات وأسئلة الحرية والشباب والحب والصداقة والموت، كيف لها أن تبدأ وتنتهي، كيف تتسع الدوائر وتضيق لكي لا يتبقى أخيراً سوى أن تروى الخسارات بكل صدق وحيادية لأنه لا شيء له أن يصمد إلا الحكاية ومقاومة النسيان والموت بالذاكرة.. الذاكرة التي سيستمر ركامها المر رغماً عن كل شيء ليؤكد وجود الإنسان.. فالتذكر في حالة “خالد عبد الهادي” من خلال أصدقائه وكل ما مروا به من تغييرات تأتي لتشكل فعل المقاومة الوحيد والأمثل.. يشتبك هذا الأمر قليلاً مع نظرية التذكر لدى إدوارد سعيد -رغم اختلاف السياقات التاريخية- عندما أصدر مذكراته التي حملت عنوان “خارج المكان” واضعاً ذاته القديمة في مواجهة ذاته الجديدة ومقدماً سردية شخصية للحدث والمكان من خلال ذاكرته التي تحركت بين فلسطين ومن ثم الولايات المتحدة على سبيل تشكيل وعي مقاوم، وهو الأمر الذي جاء في حالة “خالد عبد الهادي” هنا بين بنغازي الليبية ولندن الإنجليزية لتشكيل وعي مقاوم من شكل خاص، أكثر تساؤلا وتحولاً كونه كما تشير نهاية الرواية ما زال مستمراً في عقل وحياة البطل “خالد”.. تجاه حياة المهاجر وذاكرته الحلوة المرة وحقه الإنساني في مقاومة التلاشي.
كل التوفيق للعمل في الوصول للقائمة القصيرة، لأنه رغم اختياره لموضوع محدد في رصد الربيع إلا أنه يتسع ليلامس كل العالم في فكرة الصداقة التي تولد في أزمنة الخيبات الكبرى.