في زمن تتدفق فيه الكلمات بسرعة البرق، وتُكتب الرسائل بضغطات مختصرة على الشاشات، يعود أدب الرسائل ليذكّرنا بأن الكتابة كانت يوماً فعلاً بطيئاً، وعميقاً، ومشحوناً بالعاطفة. وهذا النوع من الأدب لا يقدّم موضوعاً فحسب، بل يكشف صاحبه كما هو: هشاً، أو صادقاً، أو ممتلئاً بالأسئلة التي يخجل الإنسان غالباً من قولها بصوت مرتفع. ربما لهذا السبب يحن القرّاء إليه، لأن الرسالة ليست نصاً عابراً، بل أثرٌ إنساني حيّ، يحمل بصمة اليد قبل بصمة اللغة.
ولعل أكثر ما يجعل أدب الرسائل فاتناً هو قدرته على التقاط التفاصيل الصغيرة التي تتجاهلها الكتابة الرسمية. فالرسائل تُكتب حين يكون الكاتب وحده، بلا جمهور، بلا محاولة لتزيين الجمل أو إخفاء ما يشعر به، في لحظة تقف فيها اللغة على طبيعتها، فلا تبحث عن إقناع أحد أو تجميل شيء، بل عن قول الحقيقة كما هي. وحين يقرأ القارئ هذه الرسائل، يشعر أنه يتلصص على حميمية لا تُمنح بسهولة، ويصغي إلى صوت بشري بلا أقنعة.
ولأن الرسالة تحمل زمناً أطول من زمن كتابتها، فهي تحفظ في داخلها حالة الكاتب حين خطّها: انفعاله، وضعفه، وتوقه، وانتظاره، وحتى غضبه. كل جملة فيها تنبض بما كان يحدث في تلك اللحظة: نافذة مفتوحة، رائحة قهوة، موعد تأخر، أو شوق لم يجد طريقاً آخر للتعبير. فالرسالة ليست مجرد ورقة، بل لحظة متجمدة في الزمن، وحين نقرأها بعد سنوات، نسمع فيها ما لم يعد يُقال. وهذا ما يجعلها وثيقة عاطفية بقدر ما هي وثيقة أدبية.
ومن جهة أخرى، يمنح أدب الرسائل مساحة للكتابة التأملية التي نكاد نفقدها اليوم. فالرسالة لا تُكتب على عجل، بل تُصاغ برويّة، فتسمح للكاتب بأن ينظر إلى داخله، ثم يعيد ترتيب أفكاره قبل أن يرسلها إلى الآخر، لتبدو أشبه بتمرين على الصدق وعلى الإصغاء للأفكار قبل خروجها. لذلك تبدو الرسائل وكأنها تمتلك قدرة فريدة على تخفيف ثقل الحياة، وعلى تحويل المشاعر المبعثرة إلى كلمات يمكن احتمالها.
ربما لأننا أصبحنا محاصرين بالكلمات السريعة والمتلاشية، نعود إلى أدب الرسائل بحثاً عما يربطنا بإنسانيتنا الأولى. فالرسائل لا تُقرأ فقط، بل تُشعر. وهي تذكّرنا بأن اللغة ليست أداة تواصل فقط، بل وسيلة تودّد أيضاً، وأن الكتابة ليست مجرد فعل تقني، بل فعل محبة. ولهذا يحن القرّاء إلى الرسائل: لأنها تأتي من القلب، ولأنها تصل إليه دون أن تتوه في الطريق.



