في الخامس عشر من سبتمبر، حلّت ذكرى ميلاد الكاتبة البريطانية أجاثا كريستي (1890–1976)، أيقونة أدب الجريمة وسيدة الغموض التي غيّرت ملامح السرد البوليسي. وبعد مرور أكثر من قرن على ولادتها، ما زال اسمها حاضراً في قوائم الكتب الأكثر قراءة، وما زالت رواياتها تعيش بين أجيال متعاقبة من القرّاء الذين يجدون في عالمها تشويقاً لا ينتهي، حيث يبرهن حضورها المتجدد أن بعض الأصوات الأدبية لا يحدها زمن ولا يضعفها تعاقب السنين.
ولدت كريستي في بلدة توركواي الساحلية جنوب إنجلترا، في بيئة هادئة شكّلت خيالها المبكر، لتخوض لاحقاً تجربة الكتابة في فترة عصفت بها الحرب العالمية الأولى. ومنذ صدور روايتها الأولى “قضية ستايلز الغامضة” عام 1920، ظهرت بصمة مختلفة في أدب الجريمة: حبكة دقيقة، وأجواء مشبعة بالغموض، وشخصيات مرسومة بدهاء. ومنذ ذلك العمل الأول، بدأ العالم يتعرّف على كاتبة ستصبح الأكثر مبيعاً بعد شكسبير.
وقد قدّمت كريستي للعالم شخصيات صارت أيقونات أدبية في حد ذاتها: المحقق البلجيكي هرقل بوارو بذكائه التحليلي، والآنسة ماربل ببصيرتها النافذة. هاتان الشخصيتان تحوّلتا إلى رموز ثقافية تجاوزت حدود الأدب، لتستقر على المسرح وشاشات السينما والتلفزيون، مانحة قصصها حياة جديدة في كل جيل. ويُقال إن شخصية بوارو وحدها أصبحت رمزاً للجريمة الكلاسيكية بقدر ما أصبح شارلوك هولمز رمزاً للتحقيق العقلي.
ولم يكن نجاح كريستي في نسج الألغاز فحسب، بل في جعل الغموض مرآة للإنسان نفسه. فقد وظّفت الحكاية البوليسية كأداة لفحص الدوافع البشرية، ورسم ملامح المجتمعات في لحظات التوتر والأزمات. وتمكّنت من خلال الكتابة بأسلوب يمزج بين بساطة السرد وإحكام البناء، في جعل القارئ شريكاً في حل اللغز، وهو ما منح أعمالها طابعاً تفاعلياً متفرّداً. لذلك، لم تبقَ رواياتها حبيسة الرفوف، بل تحوّلت إلى ظاهرة عالمية تُدرَّس وتُقتبس وتُعاد قراءتها باستمرار.
وفي ذكرى ميلادها، تبدو أجاثا كريستي أكثر من مجرد كاتبة روايات بوليسية، إذ أنها تمثل مدرسة في تحويل الأدب الشعبي إلى فن خالد. حيث أثبتت أن الرواية التي تنطلق من فضول الإنسان وأسئلته الكبرى قادرة على العبور من زمن إلى آخر، ومن لغة إلى أخرى، من دون أن تفقد بريقها. ويمكن القول إن إرثها لا يشيخ، لأنه يقوم على لغز أبدي: لغز النفس البشرية بما تحمله من أسرار ورغبات ومخاوف.



